فقرة أولى عن عاشوراء الحدث.
1 ـ من المتفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم عليهما الرحمة عن الأم العظيمة عائشة عليها الرضوان أنه عليه السلام صام عاشوراء وأمر بصيامه إستحبابا لا وجوبا وأن ذلك كان إحتفاء منه عليه السلام بذكرى إنجاء الله عبده موسى عليه السلام من عدوه فرعون قائلا عن اليهود الذين يصومون ذلك اليوم في المدينة ( أنا أحق بموسى منهم) وكان ذلك قبل فرض صيام رمضان كما ثبت أنه قال أن صيامه يكفر الله به ذنوب عام فات وأنه وعد بصيام تاسوعاء ولكنه مات قبل ذلك.
2 ـ وبذا نتبين أن الحكمة من صومه هي شكره سبحانه إحتفاء بيوم نصر عظيم في ملحمة المقاومة بين الأنبياء والفراعنة وإحياء مثل ذلك يصل الأمة بمجدها ويودع الناشئة الجديدة قيم التعلق بسيرة الأنبياء المجاهدين إذ لا تخلو الأرض من ورثة لهم ولا من ورثة لفرعون وهامان وقارون وجنودهم. التاريخ ذاكرة الأمم ومن فقد ذاكرته فقد مبرر وجوده.
3 ـ الصيام بكل أنواعه من أجلّ العبادات ف(من صام لله يوما واحدا باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا). و( أفضل الصيام صيام داوود عليه السلام ) إذ كان يصوم يوما ويفطر يوما. بل ثبت عن بعض الصحابة منهم عائشة عليها الرضوان أنهم كانوا يصلون الصوم شهورا والنهي الثابت في ذلك لا يحمل على النهي الآثم فاعله إذ هو عمل معلل معقول وليس تعبدي محض. يليه صيام عرفة لأنه يكفر ذنب عامين ثم صيام الأيام الستة من شوال لأنها تعادل صيام الدهر أي صيام ذلك العام بكامله ثم صيام عاشوراء لأنه يكفر ذنب عام واحد فات. ربما يكون ذلك الترتيب بالنسبة للتجار أدنى إلى صنعتهم. وليس صيام الجمعة ولا غيرها مكروها كراهة تحريمية ولا حتى تنزيهية رغم ثبوت النهي عن ذلك ولكنه نهي معلل مفهوم سيما إذا إتفق أن إجتمع يوم الجمعة بيوم عاشوراء مثل ما نستقبل بحوله سبحانه. وعدا العيدين تحقيقا لا يحرم صيام أي يوم وربما يكره صيام أيام التشريق الثلاثة إلا لناذر أو قاض أو مفتى بذلك لحالة خاصة به. ولا يكفر ظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم إلا بمغفرة منهم هم لأنه ظلم ( لا يتركه سبحانه ).
فقرة ثانية عن عاشوراء المحدثة.
1 ـ في اليوم نفسه أي العاشر من محرم الحرام من عام 61 هجرية قتل السبط الأكبر له عليه السلام أي الحسين إبن علي عليهم الرضوان جميعا في كربلاء وفصل رأسه وجيء به إلى يزيد إبن معاوية كما أسر من معه من أهل البيت النبوي الشريف. وكان الحسين في معركة منخرمة الموازين عددا وعدة بينه وبين العراقيين من أنصار يزيد.
2 ـ الموقف الإسلامي الأرشد للسنة والشيعة معا هو تقديم الإحتفاء بما إحتفى به هو نفسه عليه السلام فهو النبي المبلغ أي إظهار الفرح بذكرى إنتصار موسى عليه السلام على عدو الله فرعون ومباشرة الصيام لمن أراد شكرا لله سبحانه وإمتلاء بأن الحق يعلو ولا يعلى مهما تقادم الزمان ويئس القاعدون. ولا مانع من الجمع بين الذكريين معا إذ أن الحسين شهيد في سبيل الله سبحانه فهو السبط وهو الريحانة وما كان يقاتل سوى ثورة ضد أحد أعتى ملوك بني أمية على الأمة وأول من إبتدع ـ إو إبتدع به ـ أشنع بدعة سياسية في الإسلام وهي إلغاء الشورى التي عمل بها الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة مشروعية لإعتلائهم قيادة الأمة بل إلغاء الشورى التي لنا فيها سورة مكية كاملة وأمر للنبي الكريم نفسه (وشاورهم في الأمر) وهي عماد فقهنا السياسي ولا عماد يسبقها. هو الذي إبتدع ـ أو إبتدع به ـ تلك الشنيعة ليبدأ سقف الأمة في الإندكاك حقبة من بعد حقبة حتى خرّ به أتاتورك قبل زهاء تسعة عقود ثم لتكون من بعده ملكا عضوضا وجبريا ثم قهرا ورقا نخر كيان الأمة وأذلها من بعد عز وغلبة. جهاد الحسين يقفو أثر جهاد موسى عليه السلام دون ريب. ولا يعني الجمع بين الحدثين تقديم الحسين على موسى عليه السلام ولا حتى المساواة بينهما فهذا سبط وريحانة وصحابي ومن آل البيت النبوي الشريف الكريم وذاك نبي رسول من أولي العزم بل هو الكليم. كما أن الجمع بين الحدثين لا يعني كذلك وبالضرورة إستصحاب ما يفعله المحتفلون من الشيعة في هذه المناسبة ممن تنقل لنا الفضائيات مشاهدهم صوتا وصورة من مثل الجلد وغير ذلك من المشاهد المنكورة إذ لا يعلو فوق مرتبة الأنبياء كائن من كان.
3 ـ تنوع الأمة دينيا ومذهبيا وفكريا وسياسيا ولسانا ولونا واقع مشهود لا قبل لنا لا بتغييره ولا بتجاهله ولا مناص لنا من الإعتراف بذلك التنوع الذي تحول في فترات سابقة من تاريخ الأمة إلى عامل قوة وخصوبة وإثراء ولم يكن أبدا عامل هوان وضعف وفرقة. وقد نشبت في العقود الأخيرة ـ سيما من بعد ثورة الخميني الإيرانية عام 1979 ـ بين الأمة ناشبات شر ونذر ضر وهي اليوم ربما في ذروتها في إثر ما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليس الإتفاق النووي الأمريكي الإيراني الأخير إلا إشارة إنطلاق لتمزيق ما بقي من صف هذه الأمة موحدا. في السنة غليان سلفي أهوج ضد الشيعة جملة وتفصيلا دون تمييز بين الشيعة مذهبا أصوليا فقهيا تاريخيا من أبرز رجاله الكبار الذين ترجم لهم مشايخ الأزهر من مثل الشيخ محمد أبوزهرة عليه الرحمة أي جعفر الصادق وبين الشيعة ـ كما ظهرت في العقود الأخيرة ـ طائفة مذهبية سياسية بقيادة إيران لا تكنّ خيرا فيما يبدو لبقية أبناء الأمة الإسلامية. التمييز بين الشيعتين ضروري للدارس الحصيف الذي لا يكون إمعة. هو تمييز لا بد منه لحفظ وحدة الأمة وليس في الإسلام الذي هو إسلام السنة والشيعة معا أرضى لله سبحانه من بعد شهادة التوحيد ـ بل معها توازيا ـ من العمل على إعادة رص هذا الصف الذي يذب عنا ذئابا جشعة نهمة لن ترعى فينا جميعا ـ ورب الكعبة ـ إلاّ ولا ذمة لا سنة ولا شيعة. وفي الشيعة كذلك مثل ما هو في السنة سلفية شيعية طائفية مذهبية حمقاء مغرورة بقوتها ومدفوعة بقوى دولية نافذة لقاء مقايضات إستراتيجية متبادلة. بل لم تأل جهدا للتعبير عن طموحها الإستيطاني وشق صف الأمة وإعادة توحيدها تحت راية شيعية واحدة.
4 ـ هل يحلم عاقل يؤبه لكلامه أنه سيأتي يوم علينا تكون فيه الأمة سنة بلا شيعة أو شيعة بلا سنة؟ هو كمن يقول أنه سيأتي يوم تندثر فيه المسيحية واليهودية من الأرض. الذين يفكرون بمثل هذه الحماقة لم يدركوا من سنن الله في كونه شيئا. هؤلاء ربما يعترضون عليه في قوله إن كانوا يفقهون قوله ذاك وغيره ( وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن). ألم نفقه بعد أن التنوع إرادته هو فلا راد لإرادته؟ أم أننا نحن ملاك الكون ومهندسوه فنزيح من عناصر التعدد ما نشاء ونترك ما نشاء؟
5 ـ أعرف أن إصراري على ضرورة توفير حد أدنى من لقاء سني شيعي يحفظ للأمة ما بقي من صفها ويقيها عواقب الإحتلال بكل أنواعه .. أعرف أن مثل هذا مرفوض مطلقا من غلاة السنة ـ السلفية مثلا ـ ومن غلاة الشيعة. وأعرف كذلك أن الطريق وعر صعب عسير لا يرقى بل رقاه رجال كبار عظام من مثل الإمام القرضاوي في لقائه مع رفسنجاني عام 2007 فكان الذي كان في مستوى قيادة الإتحاد العام لعلماء المسلمين.. ولكن عندما يشير عليك الطبيب الذي فيه تثق بتناول دواء هو أمر من الحنظل وأزعف من السم وأزأم من الموت فما عليك ـ إن كنت تحترم حقوق نفسك عليك ـ سوى الإنصياع. ألم يشر الطبيب علينا ـ الوحي الكريم ـ بالصف الواحد رغم تنوعه ( سورة الصف)؟ ألم يشر علينا بالتشاور والتوافق والتراضي ( سورة الشورى)؟ ألم يشر علينا بالحديد ( سورة الحديد)؟ ألم يشر علينا بالقلم رمزا للعلم والبحث والإجتهاد( سورة القلم)؟ كل تلك الوصفات ـ بل هي وصفة واحدة ـ لا مكان لها إلا بتكافل مكونات الأمة من شيعة وسنة وإباضية وظاهرية.
6 ـ أليس حريا بعقلاء الشيعة كف أنفسهم وأتباعهم عن سب الصحابة الذين نترضى عنهم نحن إتساء بالقرآن الكريم وليس ترضيا من عندنا؟ ليس معنى ذلك التوافق بيننا على المسيرة الإمامية السياسية التي جرت تاريخيا بالصديق حتى علي عليهم الرضوان جميعا ولكن معنى ذلك هو تنفيذ قوله سبحانه ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ). لندع لكل قراءته وتحليله وحكمه ولكن التاريخ مضى وإنقضى ولن يعود فأي حاجة لنا في نبشه من جديد سيما بقالات يصر عليها السلفية من جانبنا ناعتين الشيعة بالرافضة وبأخرى من جانبهم أننا نواصب. وهل إذا إستخدم إبن تيمية ذلك لا نخطئه؟ ألا نعلم المناخ المذهبي والسياسي الذي عاش فيه الرجل؟ هل هو نبي متبوع؟
7 ـ لتكن الإمامة عند الشيعة ركنا عقديا وهي عندنا دون ذلك بكثير. ولكن النار المشتعلة التي لا تشجع على أي تعاون لأجل إعادة بناء صف ممزق ما لم يتدارك عقلاء الشيعة ذلك هي إتهام الأم العظيمة عائشة بالزنى والفاحشة وقد برأها سبحانه من فوق سبع سماوات. تلك هي الحالقة التي تحلق كل تعاون وتكافل وتشارك وتفاهم. مثل هذا يجب أن يتوقف وهو متوقف حتما لو أراد المراجع الشيعية ذلك لما لهم من سلطان على أتباعهم. وليكن لنا مصدرنا في الحديث أي الأخذ عن كل الصحابة بما فيهم علي وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من أهل البيت وليكن للشيعة مصدرهم المختلف أي حبس الحديث عن الأئمة المعصومين بما جمع الكليني في كافيه. ولتكن لنا العصمة خاصة بالأنبياء عليهم السلام فلا عصمة لغيرهم أبدا إلا الأمة التي لا تجتمع على خطإ ولتكن لهم عصمتهم التي يخلعونها على أئمتهم. ومهما حاول الشيطان النفخ في مثل ذلك لتكبيره وتعظيمه فإنه ثانوي صغير إذ هو لا يرقى إلى مستوى أركان العقيدة الستة المعروفة ولا إلى أركان الإسلام المعروفة ولا إلى محكمات الإسلام وقواطعه. عدا سب الصحابة أو التهوين من شأنهم سواء بالجملة أو بالتعيين وقذف الأم العظيمة عائشة بالفاحشة. وما عدا ذلك إختلافات لها ألف ألف مكان في الأصول الكلامية والشيعة طرف فيها أو في الأصول الفقهية وهي كذلك طرف فيها.
8 ـ كما لا بد للشيعة من الإلتزام بعدم الدعوة إلى المذهب الشيعي في بلاد ذات أغلبية سنية أو غير سنية ( الأباضية في عمان مثلا أو غيرهم). أليست الدعوة إلى الإسلام خارج ديار الإسلام أولى وأكثر أجرا وذخرا؟ أليست الدعوة إلى وحدة إسلامية وطنية ترص صفنا أولى أن تخترمنا الإنقسامات من كل صوب وحدب فنقع فريسة للذئاب المفترسة قابعة على تخومنا بل هي فينا ومعنا؟ هب أن الأمة كلها أصبحت شيعية أو سنية أو أباضية أو ظاهرية ماذا جنيت؟ تريد محو التنوع المذهبي؟ ألست تحارب الله في إرادته التعدد حتى الديني منه فضلا عن المذهبي وهو أقل شأنا؟
ذاك رأيي لا أبغي عنه حولا. وذاك أملي في تغلب عوامل رص الصف الإسلامي الواحد بتنوعاته كلها على عوامل الهدم والهتك والدك. لم أجد في كتاب ربي أرضى لربي من صف إسلامي واحد على تنوعه متشاور متراض متكافل متوافق على الحد الأدنى من ضرورات العيش وأبجديات الحياة. أنا أكبر من أن ألغي تراثا مذهبيا أصوليا ثرا خصيبا من قواده الإمام جعفر الصادق عليه الرحمة والرضوان ونكد زماني سيوضع ذات يوم بين قوسين كما وضعت معالجات سيئة خبيثة ذات يوم بين قوسين ومضت السنون لا تلوي على شيء. ولن يدفعني ذلك إلى إعلان كفر الشيعة جملة وتفصيلا ولكن أملي في عقلائهم أن يرعوا حق الأمة عندما تتهدد جديا في مثل هذه الأيام الكالحات العجفاوات. الدرس الأروبي في وحدته لن يزال ماثلا بين عيني لن أنساه ما حييت : شعوب وقبائل ومجتمعات وأديان وأعراق وحضارات وألوان وألسنة وملل ونحل وطوائف بالمئات والآلاف لا يجمعها شيء سوى الآدمية .. شعوب تتوحد بصفها المرصوص يوما من بعد يوم. أليس أمتي أحق بذلك وأقمن وهي متجانسة تجانسا عجيبا؟ أجل. ولكنه مشروع الرواحل العدول الذين ينظرون بمنظار الأمة وليس بمنظار المذهب.
الهادي بريك ـ مدنين ـ ألمانيا