من أصحّ الحقائق التي تساهم في الحفاظ على حياة الأمم إحتفاؤها بأمجادها العريقة ومن ذا رسم القرآن الكريم لوحة من الملاحم منها بدر الكبرى والخندق والحديبية وفتح مكة ودحر الروم بتبوك وقبل ذلك كله إحتفى بالهجرة ( أمّ الإسلام ومؤسسة الأمة ). ومن تلك الأمجاد ذكرى عاشوراء من محرم الحرام
. فما هي حقيقة عاشوراء ولم إحتفى بها الإسلام ودعا إليها وهل وفّتها الأمة حقها أم أهالت عليها من التحريف شوبا؟
رسالة عاشوراء هي : مقاومة الإستبداد الفرعوني المعاصر فريضة
ألفى عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة يصومون عاشوراء فسأل فعلم أنهم يحتفون بإنتصار موسى عليه السلام على رمز الكفر والقهر في التاريخ البشري ( فرعون ) فقال ( نحن أولى بموسى منهم ) وصام عاشوراء إستحبابا ودعا إليه ترغيبا وقال في العام الذي مات فيه ( لئن حييت إلى قابل لأصومن تاسوعاء ) ولكن إلتحق بالرفيق الأعلى سبحانه قبل ذلك
سؤال الوعاة هو : لم؟ وسؤال الجفاة هو : كيف؟
ذكر إبن القيم أنه أحصى من مواضع التعليل في القرآن الكريم ألفا ونيف فلمّا تبيّن له أن الإستصلاح عماد الخطاب القرآني أرسل خطامه. من يتديّن اليوم بعد تيه يظل سنوات عمره غارقا في كيفيات العبادة موريا المعارك التافهة حول هيئاتها وبذا يعضل الشيطان نقلته فيظل حبيس الصغيرات ولو تعلقت همته بالمنهاج الإسلامي كما تمثّله الصحابة ( وهم السلف الأحق بالإتباع ولا سلف عداهم يتّبع ) لأفنى حياته في هذا السؤال : لم أؤمن؟ ولم أصلي؟ ولم أصوم؟ ولم أتصدق؟ ولم أقاوم؟ ذلك أن العلم بالهيئات لا يستغرق عدا دقائق معدودات أما من يلج سؤال الوعاة ( لماذا؟) فإن الحياة لا تكفيه إذ أن مصالح الشريعة تتجدد
لم نصوم عاشوراء؟
سيقول الجفاة بكسل عقلي : لأنها سنّة. الجواب صحيح ولكنه يصلح للأطفال الذين يلقّنون ريثما يعقلون. الإسلام يريد الجواب الأصحّ ولا يرضى بالجواب الصحيح. ألا ترى سروره عليه الصلاة والسلام عندما سأل ( هل أنتم مؤمنون؟) إذ تمحّض للجواب الأصحّ الفاروق فأتى بكلام برهن على أنه مزوّد بعقل عجيب فما قصر فهمه على الجواب التقليدي الصحيح إذ سأله صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام عن حقيقة دعوى الإيمان إذ لم يجب جواب الأطفال الصغار ليقول أننا مؤمنون لأننا نؤمن بالله وسائر الأركان الستة ولا أننا كذلك لأننا نقيم الصلاة وسائر الأركان الأربعة. إنّما نحت الجواب الأصحّ قائلا ( نحن مؤمنون لأننا نؤمن بالقضاء ونشكر في السراء ونصبر على الضراء). أولئك هم الوعاة. أولئك هم العدول. أولئك هم الرواحل
نصوم عاشوراء إيمانا بأن معركة موسى هي معركتنا
ممّا أفدته من إستقراء الكتاب العزيز أن موسى عليه السلام ( وحبل النبوة كله ) لم يبعث إلى بني إسرائيل هاديا بالمقام الأوّل بل بعث إليهم محرّرا بالمقام الأوّل. دليلي على ذلك أنه ظل يطلب من فرعون ( أن أخرج معنا بني إسرائيل) ولمّا حان وقت التحرير لم يقسّم الناس فئتين : فئة مؤمنة تستحق التحرّر وفئة كافرة جزاؤها أن تظل تحت القمع الفرعوني. دليلي على ذلك أنه لم يؤمن لموسى تحت القهر الفرعوني في مصر ( إلا فتية من قومه على خوف من فرعون وملإه) ورغم أن عدد المؤمنين به أقل بكثير من الكافرين به عمل على تحريرهم جميعا. ودليلي على ذلك أن تلك الأكثرية الكافرة به بعد غرق فرعون في البحر الأحمر وعبورهم له بسلام قالوا لنبيهم موسى وهم في سيناء ( إجعل لنا إلها كما لهم آلهة) وذلك لمّا رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم. هي أدلة كافية على أن مهمة ( حبل النبوة كله ) مهمة تحريرية إعتاقية بالمقام الأوّل وليست هي مهمة إيمانية بالمقام الأوّل. هذا المعنى في تراثنا التفسيري والفقهي غائب ومن ذا تشرّبنا الإنقياد للطغاة كابرا عن كابر
نصوم عاشوراء ثقة بالنصر الإلهي
لا أرتاب طرفة عين في أنه عليه الصلاة والسلام ما إستحبّ للناس صوم عاشوراء إلا لتذكيرهم بحقيقتين : الأولى هي أن معركة هذه الأمة هي معركة موسى وبني إسرائيل مع المؤسسة الفرعونية الجاهزة ( هامان مديرها التنفيذي وقارون خزانتها المالية والسحرة والشعراء جهازها الفني والأدبي والإجتماعي ).ولذلك إحتلت هذه القصة أكثر القصص الذي إحتل بدوره ثلث القرآن الكريم كله. الحقيقة الثانية هي أنه يريد أن يجدد فينا الأمل في نصر الله سبحانه والثقة في معيته إذ أن ذلك هو السلاح النفسي الأعظم وهو السلاح الذي يستخدمه الصهاينة اليوم إذ يقدمون المعركة بصفتها الدينية التي إستنكفنا عنها نحن بدعاوى باطلة والحقيقة أن من يئس من النصر لن ينصر ومن تعلقت همته بالنصر نصر ولو بعد حين
ولم نصوم أصلا؟
أليس أنسب أن ننظم الإحتفالات كما تفعل الأمم من حولنا عندما تحتفي بأعيادها؟ أليس الإسلام مبتدعا إذ يوصي أتباعه بالإحتفال بأمجادهم صوما؟ الجواب من شقين : أوّلا نحن نصوم ليس لأجل الصوم نفسه بل نصوم لأجل شيء آخر. نصوم لأننا نؤمن عقلا ونقلا معا أن الصوم يحرر النفس من أدرانها ويخلصها من شهواتها التي تقعدها عن المقاومة والجهاد والإيثار فإذا تحررت النفوس من الإنشداد إلى الدنيا هرع الناس إلى ساحات العمل وفضاءات البذل وبذا يكون الصوم مقصودا للمقاومة وعمارة الأرض وليس مقصودا لذاته إذ أن أي شيء قصد لذاته فهو رذيل تافه. وثانيا نحن نصوم ولا يمنع ذلك البتّة من توفير هيئات أخرى تعبيرا عن الفرحة بهذا الذكرى وتزويدا للنفس بالغذاء الروحي وحثّا على وعي عظاتها بل إن تلازم الصوم بمثل ذلك لهو الوعي الصحيح بالذكرى وحمولاتها
ولم نصوم تاسوعاء؟
نصوم تاسوعاء لنتعلم فقه التميّز الحضاري عن الأمم. فقه التميّز معناه أن نستقل بحضارة وثقافة وعادات وتقاليد وأعراف ولكم نحن بحاجة إلى قيمة التميّز في هذه الأيام والحرب ضد الأمة بإسم أولوية القوانين الكونية تضرب بقوة وتوقع في شراكها المفتوتين بالحداثة. فقه التميّز معناه أننا نخالف اليهود الذين يصومون عاشوراء فلا نلتقي معهم حتى في عبادة أصلها واحد وذلك أدعى للحفاظ على الهوية الإسلامية. حتى في الإلتحاء الذي يجعل منه الجفاة ( أصحاب سؤال : كيف؟ وليس لم ؟ ) ركنا يأثم تاركه ما أراد عليه الصلاة والسلام منا عدا التمكين لقيمة التميّز فقال ( خالفوا المشركين : أعفوا اللحى ). أي أن الأمر ليس مقصودا لذاته بل مقصود بالأصالة تميّزا. ما غزينا اليوم إلا من بعد فقد مناعة التميّز ومن فقد المناعة غزي دون ريب
بين ( سنة ) غافلة و( شيعة ) زائفة
لست سنيا ولا شيعيا وليس هناك ما يلزمني بانتحال أي عنوان سلفي أو صوفي أو كلامي أو جهوي. أنا سني بسبب الصلف الشيعي فحسب ولكني لا أومن بتنوع متحارب إذ أن مقصد التنوع هو التكامل والتعاون فإذا تحول إلى إحتراب فإن الوجود الشيعي الطائفي المعاصر متمثلا في الإدارة الإيرانية وحزب الله لا يقلّ عداوة وحقدا في مستوى القيادات الموجهة على الوجود الصهيوني المحتل. كلاهما يعمل على إجتثاث الوجود الإسلامي. بدأ الشيعة إحتفالاتهم المعلنة بذكرى كربلاء في العهد العباسي وكلّما إضطربت وحدة الأمة وإنقسمت رايتها السياسية تسللت الراية الشيعية الطائفية ثم كانت لهم دول عظمى مثل الصفويين في الشرق والفاطميين العبيديين في الغرب. مشكلتي مع الشيعة الطائفية العاملة على إستعادة مجدها على أنقاض الوحدة الإسلامية العظمى. أما الشيعة المذهبية فهي تنوع وتعدد ولن أسترضي الجمهور السنّي المثار من لدن القمع الشيعي الطائفي المعاصر ( سوريا والعراق ) لأعدم الوجود المذهبي. وعندما إنقسمت الأمة بالضربة القاضية في إثر السقوط العثماني وقبل ذلك في أيام ضعفها أصبح التزييف الشيعي الطائفي فظيعا وأي فظاعة أشدّ من تزوير التاريخ وإستبدال النصر الإسلامي بقيادة موسى عليه السلام على القهر الفرعوني بإستشهاد الحسين عليه الرضوان في كربلاء؟ هذا سبط عظيم ورث عن جدّه عليه الصلاة والسلام حب الفداء ومهجة الإقدام وذاك نبي رسول من أولي العزم بل كليم. أيهما أولى؟ وأيّ اليومين أولى؟ حسم المعركة مع الفرعونية المعاصرة اليوم أولى من إجترار الخلافات التاريخية. الناكية هي أن أهل السنة غفلوا عن عظات عاشوراء وحولوها إلى عبادة صوم فحسب لا تجدد ثقة في النصر الإلهي ولا تبعث العزم على المقاومة كما فعل موسى عليه السلام. أما الشيعة فتوحلوا في التزييف التاريخي وإشغال الأمة بالماضي الذي يفرق وليس بماضي موسى الذي يوحّد. وفي الحالين ضمرت ذكرى عاشوراء فينا فلا خير في ( سنة ) غفلت عن العظة ولا في ( شيعة ) زيفت التاريخ
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de