ليوم اكتب لنفسي التي تابى الا ان تعود بذاكرة لا تثقب الى ايام الزمن الجميل في اواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الخالي.
نشات في بيئة ريفية شديدة الفقر عدا ان قيمة الفقر في تلك الايام لا تعني شيئا لأهل تلك البيئة اذ كانوا رحلا يقتفون اثر الغيث حيث هما قروا فان اجدبت طووا خيامهم ووضعوها فوق نوقهم وتيمموا صيفا لاظيا حيث يستعيضون عن الخيام باكواخ من نبات ( الصبط ) الصحراوي هناك حيث تينع شجيرات التين وكلابهم الأمينة تحرس ماشيتهم وديكهم توقظهم للصلاة في غلس الفجر وعندما تصفر الشمس موءذنة برحيل القيلولة .
عندما أقص هذا على أحفادي الذين ولدوا في مشافي المانيا يسألونني بلكنة لا اثر فيها من الاطلال التي احتضنت صباي عن حنفية الماء الساخن وعن النور الكهربائي وتشتد حيرتهم لعدم وجود بيت خلاء وكيف ننام مفترشين الارض ولا نخشى الزواحف.
لم يكن الناس في تلك الايام في حالة انقسام بسبب الاختلاف في دخول رمضان او يوم العيد اذ ينفذون السنة فطرة وليس لسابق علم ( صومكم يوم تصومون).
لا يصلهم بالكون من حولهم عدا مذياع صغير يهرعون اليه متحلقين بحثا عن خبر يسرهم عن فلسطين من إذاعة (بي بي سي ) .
ليس لهم فجر كاذب واخر صادق ولا ساعات يدوية اذ لا يحجبهم عن الخيط الابيض والخيط الاسود شيء ويتناولون وجبة السحور قبيل صلاة الفجر يراعون فيها ما يقيهم الظمأ الشديد في بيئة تستعر فيها حرارة الرمال بما يكفي لإنضاج رغيف من الشعير او بيضة .
عندما توشك الشمس على المغيب يعودون الى أكواخهم متحلقين حول قصعة واحدة تسع العايلة كلها مصيخين السمع لطلقة بارود يبعد عنهم عشرة اميال واكثر فان تاخر هذا لعطب او ريح تجري في الاتجاه المضاد وصلوا إمساكهم حتى تغشاهم ظلمة الليل .
الشاي مشرب لا يتخلف وليس عداه وتلك القصعة التي لا تحوي سوى شعيرا مطحونا شيء . كنت اصحب امي عليها الرحمة اذ تقطع بضعة اميال كل يوم لجلب ماء شديد الملوحة والبرودة معا. شربة ماء للصائم هي كل شيء .
لم اسمع يوما من واحد منهم ضجرا او تبرما وقد اخبرني ابي عليه الرحمة ان جفافا الم بهم ذات سنين فلم يطعموا لأعوام ثلاثة عدا الشعير يطبخونه بماء فحسب اذ نفقت الماشية .
يسعون بعد ذلك الى صلاة التراويح خلف امام يبعد عنهم ثلاثة اميال يلفهم الظلام الدامس في مناكب لا تعبدها غير عصيهم التي تفحص مرامي أقدامهم ان تزل.
اوليك اهلي الذين شربت منهم ماء المروءة فقرت به عيني …
اوليك الذين يصنعون الحياء صنعا ويعبدون الله احسن عبادة وهم أميون بالكامل …
احتقر نفسي حيالهم فما أغنى عني ما علمت شيئا اذ يمتلا الصدر ضجرا وقد حيزت لي الدنيا موائد وجفان …
هذا الحنين وما أقساه يلهبني …
ترى هل يرجع العمر؟