هي كلمات حبلى بين يدي العيد الثامن لأم الربيع العربي: ثورة الكرامة في تونس. كلمات أنحني بها إجلالا للشهداء والمقاومين الذين وطؤوا أكناف هذه المنّة على إمتداد زمهرير بئيس إسترقنا به بورقيبة والمخلوع بن علي ومن يأكل معهما سحتا وزقما زهاء نصف قرن كامل. كلمات أذكر بها المنفيين والمسجونين والمقهورين الذين ظلوا قابعين تهال عليهم أتربة الموت والأرض من حولهم تمتلئ بجمعيات الرفق بالحيوان ورعاية البيئة أنّ الثورة هي عيدهم الأكبر الذي يكون الحياد إزاءه مشهدا من مشاهد الحب والشوق بردت فيه المشاعر وإكفهرت فيه تقاسيم الوجوه. ليس للعبد الفقير إلى ربه في حياته عدا مناسبتين توريان فيّ أقداح الأمل إذا صدأت : ذكرى نقلتي من البشرية إلى الإنسانية يوم 15 جوان 1976 إذ إنخرطت في الجماعة الإسلامية وإلتهمت مكتبات تنوء بحملها العير حتى أدركت أنّ المرء منزوع الدسم القيمي حيوان ناطق ليس أكثر. وذكرى ثورة الحرية والكرامة التي كفكفت دموعي الحرّى التي طالما كفّنت مآقي عندما أذكر تونس وأنا منفي في ألمانيا لعقدين كاملين رحلت فيهما أمّي صاحبة أعظم الفضل عليّ. أنّى لي أن أستسلم لنعيق ترذيل الثورة وقيمها وفي كياني عين تطرف وفؤاد يخفق؟
الكلمة الأولى
الحديث عن الثورة مكانه علم الإجتماع ومعارف العمران وأسباب النهوض وسنن السقوط بما يعني أنّ من يستسلم لكثير من تهريجات الفضائيات التونسية والفضاءات الإلكترونية من دون لقاحات فكرية منيعة سيفضي بنفسه إلى إعتبار الثورة ذنبا والحرية فوضى والأيلولة إلى إحدى أسباب إستعبادنا في التاريخ من مثل قالة ( حاكم غشوم خير من فتنة تدوم ). وهي القالة التي يعمي بها بعض حكام الخليج بصائر الناس تعزّرهم طائفة من علماء السوء وبطانة الفساد. العلم بالثورة ومصائرها مرجعه إبن خلدون وغيره ممن نظر في التاريخ نظرات حادجة وإستخلص حصائل راسخة
الكلمة الثانية
يتداعى الناس حقّا محقوقا لهم إلى تقويم سياسة الثورة على رأس كل عيد جديد من أعيادها من دون أن يسأل سائل عن المعايير والمقاييس التي يعتمدونها في معالجة التقويمات وبذلك يصبح الكلام مرسلا كما يقول علماء الحديث أي منزوع الخطام بلسان رعاة الإبل. هل نحاكم سياسة الثورة إلى الإسلام بسبب أنها ثورة شعب مسلم أم إلى مبادئ معاصرة كثر الطنين حولها بسبب غلبة هؤلاء رسوخا في السطوح غربة عن الأعماق أم نوازن قوامة بين الواجب والممكن من دون طغيان ولا إخسار؟ ترسيخ المعيار شرط مشروط ولكن تظل المعالجات مترددة بين أنصبة من العدل وأخرى من الجور وهنا مقصد عظيم تحققت فيه أقدار مهمة وهو خوضنا لفريضة الحوار ونحن مختلفون بشدّة حتى في المرجعيات الفكرية شاهرين الأقلام لا الأسياف. أليس ذلك صناعة تونسية قحّة وسبق عربي في زمن عربي أسود؟
الكلمة الثالثة
هل يصحّ عقلا سياسيا حصيفا أن نظل رافعين لسقف الإنتظارات عالية وفي كل الحقول والمجالات ودون حتى ترتيب لسلّم أولوياتها من بعد أن تبيّن أن حركة الإنقلاب ضد الربيع العربي حركة عالمية مسنودة إذ كانت الضحية الأولى مصر لأسباب إستراتيجية معروفة ثم سقطت حبات الثورة حبة في إثر حبة وكانت الرسالة الدولية ناصعة : إما عودة النظام القديم أو سياسة الفوضى الخلاقة بالتعبير الأمريكي أي صناعة الإرهاب ( الإسلامي ) والتهديد به وفتح المجال لحركة الأذناب التي لا تقل عداوة عن العدو الصهيوني ( الذنب الشيعي بنكهته الطائفية لا المذهبية ) بل طمعت تلك الحركة في إجهاض التجربة التركية نفسها وهي عضو معهم في الناتو؟ أليس الدرس أشد نصاعة في سوريا؟ إنزال للفوضى الخلاقة وإخراج لـ( داعش ) من المشهد وترتيب لتقسيم المائدة بين إيران وذيلها القذر حزب الله وروسيا وبذلك يحمى العدو المحتل من جهة الجولان بالكلية
الكلمة الرابعة
أظن أن العقلاء في حالة تواضع – أي توافق ـ على أن صمود التجربة التونسية في وجه حركة دولية عاتية لتحطيم الأمل العربي في النهضة الشاملة ليس لأسباب تونسية فحسب وهو موضع يغدق فيه الساسة بالكذب إغداقا عجيبا. لا ينكر الدور الأوربي الذي يهتم للوضع في شمال إفريقيا إهتمام الأمريكان بالشرق الأوسط ولا ينكر الدور الجزائري كما لا ينكر الدور الخليجي الذي لم يظفر بضوء أخضر دوليا من جهة ولم يظفر بخلفية حاملة في تونس لا عسكريا ولا أمنيا من جهة أخرى. عدا أن هذا المشهد يظل منقوصا ولا بد من إكتماله بأن ( الرضى ) الأروبي مشروط بالمراوحة في المربع السياسي أي مربع الحريات والديمقراطية السياسية ولا يتعدى ذلك ليظل نهضة إقتصادية ورغدا إجتماعيا ذلك أنه خلدوني الهوى يكرع من المعارف الإجتماعية والعلوم العمرانية بل إن ذلك ( الرضى ) مشوب برغبة جامحة بل بشرط عنوانه : مقايضة سياسية في مقابل التمكين للقيم الكونية وبذلك جاء المشروع الرئاسي : تغيير قواعد الإجتماع الأسري في تونس وإعادة هندسة التصور الإجتماعي من الزاوية القيمية
الكلمة الخامسة
إذا كان ذلك كذلك ـ شرطا مشروطا وعلاقة طردية صارمة ـ فإن النتيجة المترتبة عقلا هي الحفاظ على الرساميل والتضحية بالأرباح بلسان التجارة. تحصين الثورة في بعدها السياسي الذي يوشك على الإكتمال بعد مؤسستي الإنتخابات والمحكمة الدستورية وإدارة سياسة الثورة بالتنازلات والمداهنات والمجاملات كقابض في كفه على جمرات حامية لاظية مراهنة على أن الثورة مسار وليست نقطة جامدة في محيطات هادرة من الهيمنة وأن الحرية قدر إلهي مقدور شأنه شأن القمر يغيب خلف تضاريس الأفلاك ليظهر هلالا بازغا من جديد ليستوي قمرا منيرا من جديد
رؤى في الأفاق
أوّلا : هل يمكن القول مراجعة لتحليل ( سهير بلحسن ) وعمره أزيد من عقود ثلاثة أن تونس المؤتلفة حكما بالضرورة لا بدّ لها من إئتلاف إسلامي ديمقراطي دستوري؟ ذلك ظني إذ أن إئتلاف الدولة مع إتحاد الشغل كفيل بإقصاء الإسلاميين لم يعد يسعفنا بسبب مقدّمات الثورة ومن ذا وجب تحيين عنوانه أنه لا مناص حفاظا على الرأسمال الثوري في بعده السياسي أوّلا من إئتلاف إسلامي ( النهضة ) ديمقراطي ( لفيف واسع بعشرات المئات من العلمانيين والليبراليين من غير النزعات الإستئصالية من مثل الدكتور المرزوقي وغيره ذكرا لا حصرا ) دستوري ( لفيف واسع كذلك بعشرات المئات من المدرسة البورقيبية ممن إستوعبوا الدرس الثوري ومن غير الإستئصاليين قطعا ). أظن أن مثل هذا الإئتلاف يؤمّن للثورة مسارها السياسي وهو المقصود أوّلا بالتحطيم من خنازير النفط الخليجي وعبيدهم من السلفيين
ثانيا : مسار التحصين المجتمعي الكفيل بتأمين العمق التونسي لم يأخذ مكانه حتى اليوم وظني أنه عمق شعبي وفيّ لقيم الحرية والكرامة والعدالة والهوية العربية الإسلامية بل في خيارها الوسطي الأيسر الأرفق ولكن يخشى عليه من تبعات التركة السيئة في العالم القيمي لأزيد من نصف قرن كامل من التدمير ومازالات الفضائيات التونسية تعمل عملها في الإتجاه ذاته. ذلك العمق الوفيّ يحتاج من المصلحين عملا لا تتفرغ له الدولة حتى بعد تعافي الدولة ولكن الوعي برسالة ذلك العمق أدنى إلى الضآلة وهو أمر ربما لا يؤرقني سواه. الناس أغلبهم مشغولون بتفاهات السطوح سياسيا وإعلاميا وفنيا ومع إنحسار دور الأسرة والمؤامرة الدولية ضدها أخشى على ذلك العمق رغم أن المصل الذي يحصنه أي الإسلام هو خير لقاح. فهل يتجدد اللقاح؟
ثالثا : لازلت واثقا في النظام السياسي الدستوري الذي يحكم البلاد اليوم أي شبه البرلماني في حركة تنازع إيجابي للنفوذ والسلطة بين رؤوسها الثلاثة. لست واثقا فيه بسبب ما جدّ في الأسابيع المنصرمة التي أوحت إلينا جميعا بأنه لولا ذلك النظام لإستبدّ رئيس الدولة ومكّن لرغباته في إثر تلقيه للطمتين موجعتين من حزب النهضة أوّلا ( شراكة جديدة في التوافق ) ومن رئيس الحكومة ثانيا ضمن الصراع الحزبي الداخلي لنداء تونس. إن ثقتي تنبع من أن المراحل الإنتقالية المهددة داخليا وخارجيا يؤمنها هذا النظام على هناته وعلاته دون ريب. أما الحديث عن المثال والواجب في السياسة فهو حديث مراهقين
اللهم إحفظ تونسنا وثورتنا وديمقراطيتنا ويسّر لنا أسباب الرزق الطيب الحلال
الهادي بريك ـ المانيا