في الذكرى التاسعة والعشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية
حركة النهضة بين الأمس واليوم.
((( 9 ))).
مواصلة مع معالجات الحركة لتحديات البلاد.
() ـ السلطة هي المسؤولة عن إضطرار الحركة في بعض الأحيان إلى السرية. هذا موضوع ثار حوله الجدل واللغط كثيرا. كثيرة هي الموضيع التي تضيع فيها الحقائق سيما تحت ضغوطات الواقع. من مثل أن الحركة تلام على إلتزام السرية والحقيقة أن الحركة لم تختر يوما السرية ولكن إضطرت إليها إضطرارا ملجئا ورغم ذلك لم تلتزمها وذلك من وجهين : الوجه الأول هو أن السرية التي حافظت عليها الحركة كانت خاصة بالمؤسسات التي تسعى السلطة دوما لضربها وتعويق الحركة بضربها والوجه الثاني هو أن أكثر رجال تلك المؤسسات معلنون إما بأسمائهم أو بصفاتهم مع ذلك كذلك. لك أن تقول بشيء من النسبية أن الجانب السري الذي حافظت عليه الحركة ـ حتى في أشد ساعات العسرة ـ هو الجانب ذاته الذي يحافظ عليه أي كيان أو حزب أو حركة أو منظمة مهما كان تنفذها ومهما كانت سلطتها. وفي كل الأحوال فإن السلطة هي المسؤولة عن لجوء الحركة إلى السرية بسبب إمعانها في المتابعات والملاحقات والتعذيب والسجن والتشريد والطرد من العمل وغير ذلك مما هو معروف.القضية المهمة ليست هي السرية أو العلنية ولكن القضية المهمة في هذا المضمار هو : هل أن الكيان السري يعمل لصالح البلاد والعباد أم يعمل لغدر البلاد وإثارة البلبلة وهدم الإستقرار. ذلك هو السؤال. أما لجوء الأحزاب والحركات إلى السرية المفروضة بسبب الإضطهاد والقمع فهو أمر لا بد منه بل هو جزء من المقاومة ضد الإستبداد والدكتاتورية. وبصفة عامة فإن الحركة لا تصنف بالمعايير الدولية المعروفة حركة سرية بكل المقاييس لا من حيث أهدافها ووسائلها ولا من حيث علنية مؤسساتها وقياداتها التي أعلنت عليها مرات و مرات. تلك هي الحقيقة غير أن واقع الإضطهاد والإبعاد والسجن والتشريد يغيب تلك الحقائق من حين لآخر حتى يلقى باللائمة على الحركة في حين أن المسؤول عن كل ذلك ليس سوى السلطة. ليس أدل على ذلك من أن الحركة ليست هي الكيان السياسي ولا النقابي الوحيد الذي أكرهته الدولة التونسية بتطرفها الإستبدادي على إخفاء بعض من مؤسساته العليا تحصينا لها من غوائل الإستئصال. السرية إذن جريمة السلطة وليست جريمة المعارضة من جهة والسرية ضرب من ضروب المقاومة من جانب آخر.
() ـ الإشعاع الخارجي للحركة. إمتد بفضله سبحانه الإشعاع الخارجي للحركة صوب الشرق وصوب الغرب. من ذلك أن كثيرا من الحركات الإسلامية تتابع تطور تفكير الحركة وتقتبس منه شيئا كثيرا من مثل : حزب الرفاه بقيادة المهندس نجم الدين أربكان ( ذاك أمر شهدته بنفسي على إمتداد عام كامل من إقامتي بأنقرة عام 1993) ومن مثل : حركة حمس الجزائرية وحركة العدالة والتنمية المغربية وغيرها من الحركات الإسلامية المعتدلة. كما إمتد إشعاع الحركة إلى شخصيات دولية بارزة مؤثرة من مثل الدكتور عزام التميمي الذي نال شهادة الدكتوراة قبل سنوات طويلة في موضوع الفكر السياسي عند الغنوشي. والحقيقة أن زعيم الحركة ( الغنوشي ) له مكانه المتقدم جدا في القيادات والفعاليات والمؤسسات الشعبية الإسلامية المعروفة من مثل التواصل بين الإسلاميين والقوميين فضلا عن التواصل بين الإسلاميين والعالمانيين ومن مثل المساهمة في تأسيس منظمات إسلامية لها عطاؤها المقدر ( المجلس الأروبي للإفتاء والبحوث والإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بقيادة الإمام القرضاوي)وغير ذلك مما يند عن العد الآن. كما أن للدكتور عبد المجيد النجار فضلا واسعا في هذا المضمار وذلك من خلال التآليف الأصولية المتميزة بالعمق والدقة والجمع بين الأصالة والمعاصرة ومن خلال إحياء التراث الزيتوني في تونس ونفض الغبار عن الإرث الأشعري في المنطقة بصفة عامة ومن خلال كونه العضد الأيمن للإمام القرضاوي في أكثر من مؤسسة علمية دولية. رجل آخر له كسبه الدولي المقدر جدا هو الدكتور منصف بن سالم صاحب النظرية الرياضية المعروف لولا أن البطش أهال عليه وعلى كسبه التراب وأرغمه على الإستقالة من المساهمة في تقدم العلوم والمعارف على مستوى دولي.ورجال آخرون لا يكاد يحصيهم أحد سيما في هذه العجالة التي تقصد التذكير وإثارة القضية ولا تقصد التحقيق ولا العد.
() ـ كلمة في كسب الرجال ومعاني ذلك. هذا موضوع كثيرا ما يسهل فيه شغب السذج من الناس. هو موضوع آخر تختلط فيه الحقيقة بغيرها حتى تضيع في غمرة الجدل الفارغ والتهاوي تحت مطارق الإستبداد والإبعاد. ينكر بعض الناس أن ينسب فضل الدكتور النجار مثلا للحركة أو شيء من ذلك لها.ذلك وهم بسبب أن كثيرا من الفعاليات الدولية والمؤسسات وما في حكمها تصطفي الرجال بحسب إنتماءاتهم السابقة وأبعادها فضلا عن كسبهم المعرفي دون ريب ولكن كل ذلك يظل فيما يسمى المفهوم وليس المنطوق. كثير من الناس بحاجة إلى تعلم المسكوت عنه حتى يتدرجوا في مدارج مدرسة الحياة وينهلوا من علومها ومعارفها الإجتماعية التي لا تزودهم إياها مدرسة في الدنيا. في المستوى الدولي العام ودروبه التي كثيرا ما ينبهم بعضها علينا فإن الفصل بين الرجل وكسبه العلمي من جهة وبين إنتمائه السابق ـ المقصود هنا الإنتماء الفكري والثقافي ـ فصل لا وجود له إلا في رؤوس بعض منا. المؤكد أن مصدر ذلك الشغب ـ بمثل ما أنف ذكره بمناسبة الحديث عن السرية ـ هو إختلاط الحابل بالنابل كما يقولون عند المضطهد حتى لا يميز تحت مطارق البطش بين الأمور تمييزا صحيحا وذلك مقصد مقصود من آلة البطش العربية.
() ـ وكسوب أخرى كثيرة في مجالات وحقول أخرى أكثر ولكن لا مجال لذكرهم وبعضهم غير معلوم أصلا والمسؤول عن ذلك كله هي السلطة الباغية التي تحرم البلاد من كسوب أبنائها وتنصب في مكانهم حمقى لا يزيد كسب الواحد منهم على كسب تلميذ راسب في المستوى الإعدادي الإبتدائي البسيط جدا. قل للسذج من الناس الذين يلتقطون كلمة البديل وخلو الحركة من بديل وغير ذلك من اللغط الذي لا يفهمون منه شيئا .. قل لأولئك بأنك لو جمعت كسوب أبناء الحركة على إمتداد أربعة عقود كاملة ـ بل أزيد ـ لإستنبطت منها أكثر من بديل في أكثر من حقل شرعي وكوني وسياسي وإجتماعي وإقتصادي ولكن البطش هو المسؤول عن تغييب ذلك. أول بدائل الحركة هم رجالها ونساؤها الذين برعوا في حقول علمية كثيرة ولكن أكرههم البطش إما على الإختفاء أو على الهجرة. الإنسان هو البديل. الإنسان المثقف العالم صاحب الشهائد العلمية والتجارب المهنية ومن عركته الحياة بصفة عامة. ليس البديل كومة من الأوراق تحبرها ثم تودعها هنا أو هناك. آفة الناس ـ أي السذج منهم ـ الببغاوية والقرودية ونقل الأشياء دون علم ولا خبرة.
() ـ القانون الأساسي للحركة مرآة للديمقراطية.
كلمة قبل الكلمة.
كنا قبل سنوات طويلة نحفظ القانون الأساسي للحركة ( الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت) كلمة كلمة وذلك حتى نتمكن من إستحضاره عن ظهر قلب في حالات محددة منها ما يخص بعض أعمال التنظيم الداخلية. حفظنا ذلك بيسر وعن ظهر قلب ( أقصد تحديدا مؤسسة عمال المناطق في سنوات1985 و1986 مثلا) رغم أنه يحتوي على ما لا يقل عن صفحتين بل أزيد. كانت الحكمة من ذلك أن القانون الأساسي هو الوثيقة العليا التي ما يجب أن تقع بين أيدي البوليس البورقيبي مهما كان الثمن ثم تناهى إلى علمنا ونحن رهن الإعتقال عام 1987 أن وثيقة القانون الأساسي وقعت بين أيدي البوليس فخالجنا هم وغم وخال بعضنا أن بناء الحركة كله إنهار أو هو على وشك الإنهيار. طبعا كما لا يخفى على أحد فإن ذلك ضرب من ضروب السذاجة. السرية التي أرغمنا عليها النظام البورقيبي هي ضرب من ضروب المقاومة دون ريب عندي ولكن السرية ـ سيما المغلظة منها ـ قد تخلف في النفس ما تخلفه بعض الأمراض في الأبدان. دليلي على ذلك أن أكثر الرجال الذين تربوا في مناخات السرية نالوا من الرجولة والشهامة والمقاومة حظوظا وفيرة ولكن بعضهم تحنطت شخصيته فظل أسير القديم لا يتزحزح عنه وهو بكلمة غير قابل للتطور وخاصة الفكري منه. لست على يقين إن كانت السرية عاملا من عوامل عدم القدرة على التطور عند بعض منا ولكني ألقي بذلك على كل حال. ها قد وقعت وثيقة القانون الأساسي ( مؤتمر منوبة 1979) في يد البوليس ثم وقعت كل المؤسسات بأسمائها وأسماء أهلها.. فهل أنهى ذلك وجود الحركة. طبعا لا. لأن رصيد الحركة برجالها ونسائها وكسبهم المعرفي والثقافي والعلمي والنفسي وغير ذلك. كل تلك الأمور أشكال وهيئات وصور ولكن يغيب ذلك على المبتدئ وعديم التجربة.
() ـ الشورى في الحركة قيمة عليا وثابت . ذلك هو ما أشهد به بعد تجربة عمرها اليوم 34 عاما كاملة. (إنتظمت في الحركة يوم 16 جوان 1976). لا يعني ذلك أن الحركة لم تشهد يوما خروجا عن ذلك. لا أبدا.ولكن المراد من ذلك أن الشورى في الحركة هي ثقافة وتربية عادة ما تحفظ وتصان ومن يند عن ذلك عادة ما يقاوم حتى يرضخ أو ينشأ الخلاف في إثر ذلك. البناء الهيكلي للحركة قوامه الشورى وتوزع السلطات ومسؤولية المؤسسات وغير ذلك من القيم الديمقراطية المعروفة. ولكن لا تفسر قيمة الشورى وإلتزامها في الحركة ببنائها الهيكلي فحسب. تلك مغالطة. الفترات التي غابت فيها الشورى لأسباب معلومة وفي أشياء معلومة لم تكن هي الفترات الذهبية في الحركة. المؤكد عندي أنه لم يحصل أن إستبد رجل في الحركة برأيه إستبدادا عاريا لم يجد من يردعه وخاصة في الفترات التي تميزت في حياة الحركة بضرب من الهدوء والإستقرار من جهة والفترات التي تمحضت فيها الحركة أو تكاد إلى التقويمات وهي عادة ما تكون في إثر المحن الكبرى ( 1981 و1987 و1991).
() ـ لو أتيح للمرء أن يتوسع في هذه التأملات ـ كما ذكر الأخ الكريم عبد الباقي بن خليفة الكاتب التونسي المعروف تعليقا على آخر حلقة من حلقات هذه السلسلة ـ لتوصل إلى إستنباط أهم السنن التي حكمت حركة الحركة في مشوارها الطويل الثري وذلك هو المبتغى في الأصل والحقيقة لولا أن شاغبات العمل اليومي تصرف عن ذلك.
() ـ دعني اليوم وفي هذه الحلقة الجديدة من هذه التأملات أخلص إلى واحدة من ذلك بمناسبة الحديث عن الشورى بصفة خاصة وعن الحياة الداخلية للحركة بصفة عامة. عندما تكون المناخات من حول الحركة لا صوت يعلو فيها غير صوت الإستبداد بكل صوره فإن ذلك يورث عندنا ـ مع مرور الأيام والشهور والسنوات ـ ضربا مما يسمى جلد الذات. تفسيري لذلك هو أن الحركة إنما إنشئت لبنة من بعد لبنة للفعل خارجها أي لإصلاح المحيط التونسي كما تقدم لنا في معالجات سالفة وهو نشوء تربى عليها أغلب أبنائها ـ أي الطبيعة العملية المنفتحة على المحيط ـ. فإذا كان ذلك كذلك فإن تجميد الحركة ومؤسساتها وأبنائها في سجن جديد ـ هو سجن الإعاقة الكاملة عن الفعل في المحيط والإنفتاح عليه ـ تجميد الحركة بمثل ذلك إذا تواصل لسنوات طويلات فإنه يورث إرهاصات غير إيجابية ويمكن إدراج ذلك كله تحت ما سمي بجلد الذات. ضرب من ذلك حاصل دون ريب. الطبيعة السياسية للحركة تفرض عليها بناء المحاولة في إثر المحاولة للإنفتاح على المحيط التونسي ولو كانت حركة غير
ذات طبيعة سياسية من مثل جماعة الدعوة والتبليغ مثلا أو الحركات الصوفية أو غيرها .. لو كان حالها كذلك لما أرهقها التجميد والإبعاد الطويل عن حركة الإنفتاح عن الواقع ومحاولة إصلاح المحيط قدر الإمكان. المستخلص من ذلك هو إذن : الإهتمام السياسي ـ سيما المنتظم منه تحت سقف حركة سياسية ـ لا بد له أن تتاح له فرص المشاركة ولو في الحد الأدنى فإذا أعيق عن ذلك بالتجميد ـ وليس المقصود هنا تجميد السجن لأن حياة السجن لها طعم آخر وإهتمام آخر ولا تحمل بالضرورة ذلك الهم بسبب أنه لا ينال بالطبيعة والضرورة ـ وظل كذلك سنوات طويلات فإن الحياة الداخلية لذلك الكيان قد تأسن أو تخلق إذا بدا أن آفاق الإنعتاق من نير التجميد المفروض شبه معدومة أو بعيدة المنال ولم تبادر الحياة الداخلية إلى إنتاج هموم جديدة وملفات جديدة وحياة جديدة. في ضوء ما ذكر آنفا يمكن فهم قضايا الشورى وما يتعلق بالحياة الداخلية التي ملأتها الحركة بملفات جديرة بالعمل من مثل التقويمات التي سبق الحديث عنها إلا أن تلك التقويمات عادة ما تتوقف عند الحياة الداخلية للحركة وعلاقتها مع السلطة أو قل تتوقف عند الجانب السياسي وتداعياته ـ إلا تقويم 1982 ـ 1986 ـ ولو إمتدت تلك التقويمات لتكون لبنة دراسات وبحوث في قراءة الواقع الدولي والعربي والإقليمي من كل زواياه الممكنة لزخرت الحياة الداخلية للحركة بحيوية أكثر ولأثيرت قضايا دولية أكبر من قضايا داخلية للحركة ثبت أن أساسها هو الشعور بحالة الإحتقان والتجميد والإعاقة عن الفعل مما عرض المقاومة الداخلية عند بعض أبناء الحركة إلى ضرب من عدم تحمل الآلام بلغة الأطباء فكان رد الفعل طبيعيا تلقائيا ولكنه ـ مع بداهة نشوئه ـ أخطأ الإتجاه وذلك مقصود من السلطة قصدا ولكن عندما يجهل المقاوم خصمه فإن الخصم ينتصر عليه مرتين : مرة لأنه إنتصر عليه بآلة القمع العمياء ومرة لأنه أجهز عليه بما يسمى اليوم غسيل الدماغ أو غسيل المخ فأضحى المقاوم بكر الأيام والليالي ينظر إلى نفسه جلادا ظالما آثما مجرما وإلى عدوه ضحية ومظلوما فمن أولى بالرثاء يا ترى!
وحتى لقاء قابل .
الهادي بريك ـ ألمانيا