إنتظام المسلمين والمسلمات في كيانات عقدية أو فكرية أو سياسية أو مذهبية ليس أمرا منكورا إذ صاحب المسلمين في تاريخهم الطويل ونشأ معهم منذ العقود الأولى. أس ذلك كما هو معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة هو الإرادة الربانية التي شيدت الكون بما فيه ومن فيه على قانون التنوع. لولا التنوع لمات التدين وإندرس الإجتهاد وأسنت الحياة وأزفت الساعة. أكثر الناس اليوم من الأئمة والدعاة ومن في حكمهم يشيدون بناموس الإختلاف ثم يتوقفون هناك ولو تقدموا شبرا واحدا لألفوا عجبا. من تقدم ألفى أن مفتاح العلم بالمعيار القرآني هو العلم بقانون الإختلاف. لنا في ذلك نص صحيح صريح يقول فيه سبحانه :“ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ( 27 ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ( 28 ) ) “سورة فاطر. أليس يكون المعنى الأول من ذلك البيان البهيج هو أن أقرب الناس إلى الله تعالى إنما هم العلماء وأن العلماء الأشد عناية هنا ـ بحسب الآية ذاتها دونما إجتهاد ولا تأويل ـ هم العلماء بهذا القانون الذي سماه هنا قانون الإختلاف. ألا تتوقف هنا متدبرا هذا التكرار العجيب لقيمة الإختلاف. ألا تثيرك هنا هذه الكلمة التي قصد تثبيتها مرة من بعد مرة في هذا السياق القصير. كلمة ” مختلفا “. أس العلم الذي يقرب العبد من ربه زلفى إذن هو العلم بسنة الإختلاف أي بقانون التعدد وناموس التنوع. لا يسجل إسم عالم في قاموس العلماء حتى يدرك ذلك ومن تنكب ذلك فما شم أنفه رائحة علم أبدا البتة. قد يبدو الأمر غريبا عجيبا جديدا على بعضنا اليوم فمن يبوء بوزر ذلك الذنب. نحن الذين ألفنا غير ذاك أم الوحي الذي يردنا إلى ذاك. كثيرة هي الأمور التي نغرب فيها والقرآن مشرق وهذه واحدة من تلك الأمور الكثيرة. أي جهلنا بأس العلم الذي يعده واهب العلم سبحانه سبيلا موصلا إليه.
سلم الإنتماء في الإسلام وأمته سلم مركب الدرجات بل هو لولبي الصورة يتعرج في السماء تعرجا عجيبا لئلا يضيق عن إنتماء واحد. ذلك أمر آخر تنكبناه تنكبا شديدا بدعوى الإقتصار على الإنتماء الإسلامي أو العقدي أو الديني أو غير ذلك من الأسماء التي نخترعها من عندنا لنطمس بها الحقيقة. للإنتماء أديم وله سقف أي أديم واحد وسقف واحد وما بينهما ما لا يحصى من درجات الإنتماء وصوره ومنبع ذلك التركيب المتعدد للإنسان ذاته فما كان بنيانه مركبا لا يمكن إلا أن يكون إنتماؤه مركبا كذلك.
جماعة الدعوة والتبليغ جماعة إسلامية معاصرة لها خصوصياتها المعلومة. من تلك الخصوصيات أنها من أكبر الجماعات الإسلامية المعاصرة عددا بل ربما تكون هي الأكبر قطعا من حيث الإنتماء العددي بل ربما حتى من زاوية العبور القاري أي أنها أكثر الجماعات الإسلامية إنتشارا في الأرض فلا يحجزها شرق عن غرب ولا شمال عن جنوب. ومن تلك الخصوصيات كذلك أنها جماعة دعوية خالصة أي متمحضة للشأن الدعوي ـ كما تفهمه هي ـ تمحضا بالكلية فلا ” يشغب ” على ذلك التمحض التخصصي أي ” شاغب ” فكري أو سياسي أو ثقافي أو نقابي أو أمني أو عسكري أو غير ذلك من الحقول التي يمكن أن تتوجه إليها جماعة إسلامية معاصرة. ومن تلك الخصوصيات كذلك أن الدعوة عند الجماعة تأخذ صورة واحدة تقريبا. صورة أحادية الإتجاه وهي صورة ” الخروج في سبيل الله ” لمدة تزيد أو تنقص بحسب المنتمي وبحسب الحاجة وغير ذلك مما هو مقيد بنظام داخلي معلوم. كما تخضع الجماعة إلى شيئ شبيه بالنظام الأساسي الداخلي مما يرتب أعمالها ويقسم أمصارها ويؤمر رجالها. تلك هي أهم الخصوصيات التي تعنينا هنا اليوم بصدد الحديث عن هذه الجماعة.
دافعان يبعثان في حب الكتابة في هذا الموضوع. أولهما دافع الحب لهذه الجماعة وهو حب نشأ من بعد معرفة كبيرة وطويلة بمناشطها ورجالها إذ ما لمست في أكثر رجال الجماعة غير حرص شديد على قيم الإخلاص والصدق والصبر والإلتزام الشديد بمنهاج الجماعة والوفاء لخطها العام وقوامه ” قل كلمتك وإمش ” غير عابئ بإختلاف عقدي أو مذهبي أو فكري أو سياسي ولا حاشر لأنفك في أي صغير من ذلك ولا كبير. أما الدافع الثاني فقوامه هو تعرضي كثيرا لهذا السؤال المريب : هل هذه الجماعة مبتدعة؟ طرح علي هذا السؤال مرات ومرات وليس من ” خصوم ” الجماعة فحسب بل من بعض أبنائها كذلك. في بعض الأحيان يكون الأمر في صورة ملحمة عدائية سافرة تطلب مني بإلحاح عجيب تخصيص خطبة جمعة بأكملها إلى إعتبار الجماعة بدعية. أدركت في الوقت المناسب ـ ربما ـ أن التيار السلفي في جملته العامة لا يرحب بهذه الجماعة ويعتبرها بعضهم مبتدعة. يحجزني عن الحديث عن الجماعة في المساجد ما ظللت ألتزمه مؤمنا به قبل أن يكون أدبا عاما أو قانونا مسطرا وهو الإعراض في المساجد عن الحديث عن الهيئات والكيانات من كل حقل وضرب وإتجاه لا بالإشادة ولا بالإساءة ومثله فيما يتعلق بالأشخاص إلا ما كان عالما في حقله.
ساءني أمران في المسألة : الأمر الأول هو تلك الحملة ضد تلك الجماعة بحسبانها مبتدعة والأمر الثاني هو أن بعض رجال الجماعة لا يحسنون دعوة الناس إليهم أي إلى الخروج معهم في عملهم الدعوي الذي يطلقون عليه ” الخروج في سبيل الله “.
لذلك رتبت هذا المقال المرتجل لعلي أذكي شهية الأقلام الجامعة بين العلم وبين الحكمة والأدب.
محاسن الجماعة :
1 ـ ثباتها على المنهاج الوسطي المعتدل دينا ودعوة.
2 ـ تمحضها للدعوة بطريقتها هي وعدم التشويش على ذلك.
3 ـ المساهمة في توحيد الصف الإسلامي وذلك بعدم ولوج منطقة الخلافيات.
4 ـ إهتمامها الكبير بالأدب الإسلامي والخلق الطيب والسنن والرواتب وغير ذلك من التزكيات.
5 ـ قبول أكثر أبنائها للحوار الأخوي بما يثمر التصحيح في التدين أو في الدعوة وهو أمر لمسته مرات ومرات وهو ثمرة خلق التواضع الذي يغلب على أبناء تلك الجماعة والإخلاص ونشدان الحق كلما إنقدحت أشعته في الأفئدة.
مواطن الضعف فيها :
1 ـ عزوف أكثر أبنائها عن طلب العلم بما يعرض بعضهم إما إلى الجهل المدقع ببعض جوانب الدين أو الدعوة أو إلى السقوط في بعض حبائل التدين المغشوش.
2 ـ إختصار الدعوة في صورة واحدة نمطية هي صورة ” الخروج في سبيل الله ” وهو خطأ ديني وفكري ودعوي فاضح إذ الدعوة لصيقة الحاجة الإنسانية وليست نمطية ميتة جامدة في وسائلها وصورها.
3 ـ جمود الخطاب الدعوي بسبب الزهد في العلم على صورة محفوظة لا تكاد تغادرها.
4 ـ الإستغناء عن المرأة بالكلية في الجهاد الدعوي الذي تمارسه الجماعة وهو إستغناء لا يقتصر على تشريك المرأة بل في أكثر الأحيان ينسحب حتى على جعل المرأة حاضرة في المشهد الدعوي ولو متلقية مستهلكة وهو أمر متفرع كذلك عن العزوف الشديد عن طلب العلم.
بقيت كلمات أخرى قليلة :
1 ـ إشتكى إلي بعض الناس قائلا بأن بعض دعاة الجماعة يلحون عليهم في المساهمة في الخروج في سبيل الله ويستخدمون لذلك وصف الأمة في سورة آل عمران بكونها خير أمة أخرجت للناس ومن ذا فإن الخروج في سبيل الله فريضة دينية بنص تلك الآية. ذلك مثال واحد من أمثلة كثيرة وصلتني على عزوف الجماعة عن طلب العلم عزوفا لا يليق حتى بالمسلم في بعض الأحيان بله الداعية المعاصر.
2 ـ يبرر بعضهم ذلك النقص بأن مهمتهم هي دعوة الناس إلى المساجد حيث يلتقيهم العلماء فيكسبونهم علما ومعرفة ولكن ذلك ليس مقنعا لي بسبب أن الدعوة إلى الصلاة ومحاسن الأخلاق وغير ذلك لا تكون حائلا أبدا البتة دون طلب العلم في حده الأدنى سيما لمن يتصدى لدعوة الناس في زماننا هذا. ومعلوم لدينا جميعا أن بلادا مثل تونس يصح فيها قولك بأنها أجدبت من العلماء إجدابا مفزعا. العالم في العرف العلمي هو من كان علمه يصل به إلى حد التمييز بين الأدلة التي دفعت الفقهاء إلى الإختلاف التقديري الإجتهادي في تحرير الأحكام الظنية أو تنزيل الأحكام القطعية وذلك هو المعبر به عندهم :“ من لم يعرف إختلاف العلماء فلم يشم رائحة العلم “. أما من كان دون ذلك فهو المقلد أو الحافظ ومن كان فوق ذلك فهو الفقيه أو المجتهد بمختلف مراتب الفقه والإجتهاد.
3 ـ يعيب بعضنا على جماعة الدعوة والتبليغ عدم إهتمامها بالشأن العام بصفة عامة وبالشأن السياسي بصفة خاصة. الجماعة لا تنكر الخصيصة الجامعة للإسلام ولدعوته إذ أن منكر ذلك ليس له من الإعتقاد الصحيح شيئ. الجماعة لا تنكر ذلك ولكنها تتمحض للدعوة على طريقتها هي ـ وهي طريقة بالغت في تنميطها وتجميدها بما أضر بالدعوة بصفة عامة وبالجماعة بصفة خاصة ـ وتهمل الحقول الأخرى لا كفرانا بها ولكن تفرغا لحقل واحد أو تخصصا به وهو أمر محمود في أصله سيما عندما يصحب ذلك تكوين عقلي متوازن ومعتدل.
4 ـ لا صلة للجماعة بالسلفية المغشوشة المزيفة وذلك من جانب التنزيل الدعوي قطعا إذ أن المسار الدعوي للجماعة ملتزم بأبجديات إستراتيجية الدعوة المنصوص عليها في الكتاب والسنة. أما من الجانب العملي التطبيقي تعبديا وأخلاقيا وعلاقة مع الناس ـ سيما المرأة ـ فإن أكثر أبناء الجماعة لفرط عزوفهم عن طلب العلم يغلب عليهم التدين السلفي العملي العفوي. وبذلك لا يستقيم تصنيف الجماعة أنها فصيل سلفي بأي حال من الأحوال. ولا هي كذلك فصيل صوفي إلا الصوفية الإسلامية المعتدلة تزكية وخلقا وتعبدا وإشتغالا بعيوب النفس.
مسك الختام :
الكلمة الأخيرة هنا هي أن جماعة الدعوة والتبليغ مكون أساسي من مكونات الإنتظامات الفكرية والدعوية والعملية في الأمة من جهة ومن جهة أخرى هي فصيل يغلب عليه الإعتدال والتوسط والتوازن فكرا وعملا فلا يهاجم الجماعة ـ في إتجاهها الدعوي الفكري العام وليس في تفاصيل المسالك الفرعية ـ إلا جاهل بالدين أو بالدعوة أو شغوف بتصريم حبل الأمة وشق صفها. الجماعة هي الأثقل عددا في الأمة دون ريب سوى أن ذلك الثقل الكمي لا يعكس مثله كيفيا إلا بصورة منخرمة جدا لا تكافؤ فيها فإذا إجتمعت تلك العوامل مع ما ذكر آنفا فإن العدول في هذه الأمة ـ أو الرواحل بتعبير نبوي آخر ـ مدعوون إلى إفتكاك الجماعة من دوائر السلبية إلى دوائر الإيجابية ومن دوائر الماضي إلى دوائر الحاضر ومن دوائر الدين إلى دوائر الدين والدنيا معا ومن دوائر الجمود والنمطية والتقليد إلى دوائر الفعالية والإجتهاد والتجدد وبذلك تتطعم الدعوة الإسلامية المعاصرة بجرعات دسمة توحد الأمة وهي مختلفة محتفظة بإختلافاتها.
لا ينقصنا تدين في الأعم الأغلب ولكن الذي ينقصنا بصورة فادحة أمران : سلوك مسالك التدين المتحضر المترقي المتمدن بحسباننا سلائل المدينة المنورة التي منها قام الإسلام بجماعته الأولى وبكتابه داعيا إلى الإجتماع الأخلاقي لأهل الأرض كلهم. والأمر الثاني الذي ينقصنا بفداحة عجيبة هو عزوفنا عن الوحدة أي عن التكافل والتضامن والتعاون فيما لا بد منه لذلك وليس إعداما للتنوع والتعدد.
الدعوة المعاصرة الرشيدة هي التي يهتم أبناؤها وبناتها بذينك المسلكين قبل غيرهما : مسلك التدين المتحضر المتمدن المترقي وليس التدين الهمجي البربري الثائر ضد الحكمة والعدل والإحسان ومسلك التدين الدافع بقوة عجيبة إلى التعاون والتكافل والتضامن وليس التدين الفردي الأناني العامل على تخليص الأنا فحسب.
والله أعلم.
الهادي بريك ـ تونس
brikhedi@yahoo.de