جزيرة جربة تودع عالما مقاوما ((( الشيخ الدكتور عاشور كسكاس )))

ودعت جزيرة جربة في هذا اليوم الثلاثاء 27 ذو القعدة 1440 ( 30 جويلية 2019) عالما مقاوما من مؤسسي الحركة الإسلامية في الجزيرة وهو الشيخ الدكتور عاشور كسكاس رحمه الله رحمة واسعة. كنت سأرثيه كما أفعل في العادة مع من يرحل عنّا من رفاق الدرب فشغب عليّ حنين شرس لا يقاوم إذ أن العبد الفقير إلى ربه تعالى من الطائفة القليلة الأولى التي شهدت ذلك الميلاد العزيز في تلك الربوع الطيبة ( جرجيس وجربة ومدنين وما في تخومها في منتصف عقد السبعينات) فأسلمت المداد إلى فؤادي ليحبّر ما تيسر له من مشاهد ضنّ بها التاريخ عن الهلاك وإحتفظت بها الذاكرة حية نابضة كأنها شريط ترقص أحداثه بين يديّ الآن

الراحل الكبير : عاشور كسكاس

من مواليد الخمسينات وهو أستاذ تربية إنتقل بين بعض معاهد البلاد ثم إستقر في جزيرة جربة موطنه الأصلي وكان من جيل التأسيس للحركة الإسلامية ( الجماعة ثم الإتجاه ) وتولى في بعض المحطات مسؤوليات محلية وهو معروف بخلقه الطيب الكريم وعلمه الواسع العميق ولمّا توالت محن الإعتقالات والسجون على أبناء الحركة الإسلامية من 1987 وما بعدها إضطر مع آخرين إلى الإنتقال إلى سلطنة عمان حيث وجدوا المأوى ومزاولة مهنة التعليم وذلك بسبب الإنتماء المذهبي وظل الرجل الراحل على الفضائية العمانية لسنوات مفتيا وداعية إلى الخير وبعد ثورة الحرية والكرامة في تونس ( يناير 2011) عاد إلى البلاد ولقيته لأول مرة بعد ذلك بسنوات قليلات في حفل تكريم للفائزين من التلاميذ والطلبة في ( أجيم ) حيث يقطن

من مشاهد الأيام الخالية

كنا مجموعة صغيرة من الشباب المتدين حديثا في أواسط السبعينات وكنا نلتقي مرة واحدة في الشهر على الأقل بقرية ( والغ ) بالمؤسس الأوّل ( الشيخ الهادي بلحاج إبراهيم ) ونقضي هناك يوما وليلة نتدرب فيها على أذكار الصباح والمساء ومختلف السنن النبوية لمختلف الحالات ومن الإخوة الذين أذكرهم الآن ( فرحات لعبار ـ الحبيب الخنوسي ـ الشيخ الصادق ـ المنجي اللباسي ـ عمر بن عمر مليو ـ شواط ( الحبيب على ما أظن) والأخوان بوعلي وصالح الودرني والمرحوم عبد الفتاح لغوان وغيرهم ) وأكثرهم ممن إلتحق في السنوات التالية إذ إجتمعنا لأوّل مرة في مخيم صيفي عام 1976 في ( برج جليج ) ولم يتجاوز عددنا الخمسة عشر من ولايتي مدنين وتطاوين بقيادة المسؤول الأول في تلك الأيام المرحوم ضو صويد عليه الرحمة. ومن الرجال الذين إلتحقوا من بعد ذلك ( أحمد مصلح ) أحد أقرب الأصدقاء إلى الراحل عاشور كسكاس وقد منّ عليّ الرحمان سبحانه أن زارني هذا الصديق العزيز في ألمانيا سنة 2009 إذ كان يعدّ لشهادة الدكتوراه. ومنهم كذلك الأخ الكريم جمال الجليدي الذي تحمل مسؤولية الإشراف على الجزيرة لسنوات طويلات قبل إعتقالات 1987 وهو الذي كتب الله لأن أعتقل معه لأوّل مرة في مدنين يوم 24 مارس 1987 ثم ننقل في السيارة نفسها إلى مخافر الداخلية بالعاصمة. ومنهم بعد ذلك كثيرون منهم على سبيل الذكر لا الحصر جمال الباروني وسليم بن حميدان ( الوزير السابق في حكومة الترويكا ) والأخت الكريمة نفيسة وأسماء أخرى كثيرة أتت بها إندياحات الحركة الإسلامية في تلك السنوات

على هامش البيعة

أوّل مشهد لبيعة أمير الجماعة في تلك الأيام ( الشيخ راشد الغنوشي ) في مدنين كانت في صائفة 1979 وكان ذلك في بيت الأخ الكريم الراحل أحمد العجرودي إذ جدد المبايعون القدامى بيعتهم وكنت من بينهم وبايع نفر جديد في الولايتين ( مدنين وتطاوين ) لا يزيد عددهم على إثني عشر وفي المساء لمّا طامن القيظ اللاظي من غلوائه سافرنا إلى جزيرة جربة لإحياء حفل زفاف ( أنسيت صاحبه الآن ) وكان بيننا الشيخ عبد القادر سلامة الذي يدير تحرير مجلة المعرفة في تلك الأيام إذ كان شيخا مسنّا إشتعل ذقنه شيبا وخطب فينا مؤكدا قيمة المقاومة بالقلم والكتابة حتى لو أقدم الظالمون على إغماد الأقلام فإن الحرف لا يموت

شهادتي لله والتاريخ

تيسرت لي بسبب المسؤولية لأعوام طويلات في مستويات مختلفة ( من 1980 موعد الإنكشاف الأمني الأوّل والأكبر حتى إعتقالي في مارس 1987 ) معرفة جوانب مهمة في تلك الربوع منها أن رجال جربة ونساءها ممن إنخرطوا في الحركة الإسلامة كانوا يتميزون عن غيرهم كثيرا في المستوى الخلقي حياء وخفض جناح وحلما ربما بسبب الإنبساط الجغرافي في التضاريس وليونة البحر كما يقول إبن خلدون وربما لأسباب أخرى منها طبيعة الطينة الجربية في تلك الأيام ويتخلق بخلقهم من يعاشرهم. ومنها أيضا أنك لا تشعر أبد البتة بأي تمايز مذهبي إذ أن كل أولئك الذين ذكرت ـ سيما من الجيل المؤسس الأول ـ أباضيون ولكن صهرتنا التربية الإسلامية الصحيحة في المحاضن الحميمية ولم ينتبه أحد منا أن هذا الذي إلى جانبه أباضي المذهب ولا أحد منهم أن هذا الذي يستأمنه على أسرار كثيرة هو مالكي المذهب وهذا من حسنات ذلك الصرح الكبير الذي يتعرض اليوم إلى كثير من العبث من لدن الأجيال اللاحقة. حتى ما كتبه أحد الباحثين الكبار ( الدكتور الجعبيري ) في تلك الأيام لم يكن ليثير فينا شيئا ولم يسترع إنتباهنا أصلا إذ هو يتصدى لتبرئة المذهب الأباضي من تهمة الإنتماء الخارجي تأسيسا. وإلى يوم الناس هذا وقد شربت مع أولئك الخلان كؤوس الأخوة الصادقة لا أعدّ الأباضية إلا مذهبا إسلاميا قحّا أصيلا. كيف لا وقد قددت من رحيق رجال أحبهم ويحبونني؟ ومن تلك الجوانب كذلك ألاّ أحد منا في تلك الأيام يقع فريسة الأفكار الضالة التي تستبد بكثير من الشباب اليوم من مثل العدوان على السائحين الأجانب أو العدوان على اليهود. وجزيرة جربة لا تعرف سوى بهذين الأمرين فهي التي يقطنها اليهود التونسيون ولهم فيها معبد كبير يؤمه اليهود من كل صوب وحدب ( الغريبة ) وهي التي يؤمها السائحون من كل صوب وحدب. ظللنا سنوات نجتمع وندير النشاط ونتحدث ولا أذكر يوما أن واحدا منها تلبس به هذا الشيطان الذي يخلعون عنه اليوم صفة الجهاد في سبيل الله. تلك هي حسنة أخرى من حسنات هذا الصرح الكبير الذي لا يعرف له كثير من أهله الجدد قيمة ولا يقيمون له وزنا. هل كان إيماننا منقوصا أو مدخولا إذ عددنا اليهود إخواننا في الإنسانية والمواطنة فلهم دينهم ولنا ديننا والأمن والحرية مكفولة بنا وبهم للناس أجمعين؟ أم كنا ( مالكية مغشوشين ) إذ إستأمنا الأباضية على أنفسنا أم كنا أهل دياثة إذ لم يضرنا أبدا أن تستقبل جزيرتنا الجميلة سائحين؟

نداء حارّ إلى الشباب

أوّلا : البلاد تحتاج إلى حركة إسلامية ( صحوة تجديدية تجمع بين العلم والحكمة ) وهو أمر يتجاوز حزب النهضة سيما بعد خياره الأخير أي التخصص الحزبي السياسي ويتجاوز غيرها ممن ينطلق مصلحا من الإسلام إذ الحركة المنشودة هي توسيع دائرة الإلتزام بالإسلام فكرا أوّلا ثم إلتزاما مسلكيا ثانيا وبذا يحفظ العمق الشعبي التونسي ويتأهل لأن يكون خزانا إحتياطيا يضخ الحياة للتجربة الديمقراطية المهددة وليس أخدودا يعوّقها بسبب إمتلائه بالتشوشات الفكرية ( اليهود والسائحون والتنوع المذهبي ) وغير ذلك. مباشرة الإصلاح بالإسلام تحت سقف الوطن الواحد كلّ مما يليه هو مشروع الحياة الكبير فلا يحمله حزب أو حركة أو جماعة أو مذهب أو طائفة أو جمعية أو منظمة ولا شأن لهذا بالإنتماءات الفرعية وهي مشروعة

ثانيا : أخبرنا عليه السلام أن الله لا يقبض العلم إنتزاعا إنما بموت العلماء حتى إذا ساد الجهل سأل الناس جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. الأمر بيده وحده يدبره سبحانه ولكن موت العلماء الذين يجمعون في يسر وعسر معا بين العلم الشرعي والموقف الشرعي أي بين الكتاب والميزان أو بين القرآن والحكمة لا بدّ أن يعالج بحركة جبر من لدن المصلحين لنشوء علماء جدد يجمعون بين الأصالة العلمية والعقل النقدي الإجتهادي التجديدي لا الإجتراري التقليدي الإنبهاري وبين المقاومة والإصلاح أما القاعدون فلنا منهم أكداسا مكدسة

ثالثا : مخ العلم كما ورد في الكتاب العزيز هو العلم بقانون التنوع وسنة التعدد إذ قال سبحانه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وذلك تعقيبا على آية طويلة نسبيا وردت فيها قيمة الإختلاف ثلاثا تطرق الأذن طرقا عنيفا وفي حالات مختلفة من تنوين مرفوع ومفتوح حتى يفيق الغافل وينتبه اللاهي أن الخشية التي يريدها الله من عبده تمرّ حتما محتوما عبر العلم بقانون التعدد والقبول بسنة التنوع. تلك هي سفينة النجاة التونسية اليوم

الهادي بريك ـ ألمانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *