هلّ رجب الحرام 1436 فهل يهلّ علينا بالحرمة والأمن والسلام أم ليودعنا غير ذلك.؟
يهمني هنا بهذه المناسبة أن أتحاور مع القارئ الكريم ببعض المسائل:
1 ـ هو شهر حرام ضمن أربعة حرم لم ينشئها الإسلام ـ أبصر ذلك جيدا ـ. أجل لم ينشئها الإسلام بل أقرها وأقر حرمتها. يسمى ذلك في التوقيف العلمي إقرارا فلا هو أخبار ولا هو إنشاء ولو يعلم الناس اليوم أن الإسلام يقر من الجاهلية ـ في كل جاهلية حتى لو كانت معاصرة ـ ما كان طيبا بل ما لم يكن مخالفا له .. لو علموا ذلك لجرت على العقل تحيينات ومراجعات تجعله عقلا إسلاميا معاصرا وليس عقلا إسلاميا غابرا فالله يعبد سبحانه في يومه أما أمسك فقد ولى وإنقضى وليس لك منه إلا الذكرى. العرب في جاهليتهم هم الذين إخترعوا الأسماء بلسانهم هم لهذه الشهور الأثني عشر وأقر الإسلام ذلك كما أقر أسماءهم هم إذ الصحابة أنفسهم يحملون أسماءهم في الجاهلية ولم يبدل أي واحد منهم إسمه ليكون إسلاميا بإسلامية الفهم الأخرق الذي نحمله نحن اليوم وهو أمر عشته في ألمانيا حيث يفرض ” الأئمة الجهلة ” هنالك أسماء عربية على المسلمين الجدد والمسلمات فقلت لهم أنتم تعربونهم وهم ينشدون تغيير الدين وليس اللسان والوطن والمطلوب الدين وليس القومية ولا اللسان ولا العرق ولا اللون. بيضوا الأسود منهم ـ وليس منهم سود ـ إذن حتى يتوافق مع لونكم أنتم وألبسوهم أرديتكم أنتم إلخ.. عندما تشتبك في العقل ا لأخرق داعيات الدين مع اللسان تحصل الجاهلية. دعك انه عليه السلام بدل إسمين فحسب لمطلب تحضري مدني ينم عن رقي الذوق النبوي العظيم ـ صخر وحرب ـ. ألم نعد نحن اليوم صخرا وحربا خلقا ومعاملة ونتسمى بفؤاد وعواطف إلخ .. هو بدل الإسم عليه السلام ليثير فينا البعد الحضاري المدني وينشئنا على الترقي الذوقي ونحن نبدل الإسم لننكر على الناس أصولهم القومية والعرقية واللغوية بإسم الإسلام. العرب في جاهليتهم هم إذن من سمى تلك الأشهر ـ ولذلك سميت عربية ولم تسم إسلامية ـ فما رغب الإسلام في تبديلها بل أقرها وهم الذين جعلوا منها أربعة حرما ـ إلتقاطا لبقية من الإبراهيمية التي إليها ينتسبون ـ فما فعل الإسلام سوى الإقرار حيال ذلك. أليس الدرس هنا بليغا أن الإسلام ليس دبابة شارونية إسرائيلية تهدم ما يقف في وجهها بل تلتقط الجمال والحكمة والزينة والرشد والحق من أي وعاء نضح حتى لو كان الوعاء جاهليا قحا. إذا كان الإسلام فعل ذلك فلم نستنكف أن نستورد الديمقراطية ـ وهي وسيلة وليست غاية ـ. سياسة الإستيراد لا نعرفها لأننا الأعلى ولكن نستورد أكلنا وشربنا وما نستر به عوراتنا. الذين يستوردون أردية يسترون بها عوراتهم ما عليهم من حرج أن يستورودا أردية يسترون بها عورات إنتظامهم الإجتماعي وقد سلبه السيف البتار ألقه.
2ـ رجب جذر ثلاثي من أصل أكثر من ثمانين ألف جذر لغوي عربي وعن كل جذر منها لك أن تولد أزيد من عشر كلمات بل يصل الأمر إلى العشرين ويجاوزها لذلك كان اللسان العربي أغنى لسان عرفته البشرية وأخصب لسان وأثرى لسان ويكفيه فخرا أن الدين الخاتم به نزل.
الرجب في الأصل: جمع بين الأبهة وبين التفرد والوحدة.
لا يرجب شيء حتى يكون منفردا من ناحية ويكون ذا هيبة وأبهة وجمال من جهة أخرى.
لمَ سمي رجب رجبا؟
الأدنى لأنه تفرد بالحرمة وهي تمام الأبهة والهيبة في سوق القيم الأخلاقية ولأنه تفرد بها فهو الوحيد المحرم لوحده دون أن يتصل زمنا بغيره. هو محرم مفرد بخلاف الثلاثة الأخرى محرمة مجتمعة وهي ذوالقعدة وذو الحجة وبهما يستدير الزمان في وحدته القياسية الكبرى ـ العام أو السنة أو الحول أو الحجة بحسب التعبيرات العربية والقرآنية كذلك ـ ومحرم الذي به يستهل الزمان دورته الجديدة.
3 ـ شهر حرام معناه أن الدين ـ الإسلام ـ إستخدمه قانونا ماديا تشريعيا لبسط أكثر ما يمكن من مساحات الأمن والسلامة بين الناس إذ لا تكفي التشريعات القانونية الأخرى من مثل القصاص والدية وغير ذلك ولا تكفي التشريعات الترغيبية والترهيبية التي حفل بها الحديث أيما حفل ولكن لا بد من تشريع آخر يخلع على ثلث الزمان ـ أربعة أشهر محرمة من أصل إثني عشر وهو الثلث ـ حرمة دينية. معنى الحرمة هو تحريم الإنسان إذ الزمان ليس كائنا ماديا بل هو كائن إعتباري تقديري معنوي ومثله المكان الذي حرم هو كذلك بمساحات واسعة من مثل المساجد كلها ودور العبادة حتى للمخالفين عقيدة ـ سورة الحج ـ والمنازل الخاصة بالناس في مهاجعهم ومقيلاتهم والأسواق العامة وحيث لا يتسلح الناس في الجملة بالأسلحة المادية القاتلة كل تلك الأماكن ـ وليس الحرمات الثلاث فحسب أو المساجد فحسب كما نظن نحن ـ محرمة بالدين والنص. حرمة المكان إذن وحرمة الزمان هما لحرمة الإنسان المكرم إذ هو المخلوق المسيد المستخلف المستأمن وليس الزمان والمكان إلا أدوات تعبدية ومساحات عمرانية ومناطق إستخلافية.
4 ـ ليس معنى ذلك بالطبيعة أن العدوان على الإنسان مالا أو عرضا أو بدنا أو بعدا فرديا أو أسريا أو جماعيا .. مباح أو هو هين ولكن معنى ذلك هو التشديد والنكير الذي يبلغ أوجه منه سبحانه أن يقع العدوان على الإنسان في تلك المناطق المحرمة. هي عملية مقارنة وليس عملية إنشاء أولي. الحرمة إذن هي رادع معنوي تربوي عظيم يعزر كرامة الإنسان وحرمة الإنسان.
5 ـ لم حرم رجب ولم فعل ذلك كذلك بذي القعدة وذي الحجة ومحرم وليس بغيرها. سؤال مهم ولكن الإجابة عليه ظنية إذ لا قطع لنا هنا لا من كتاب ولا من سنة ولكن إستئناسا منهما فحسب. في رجب معلوم ـ رغم أنه ليس مسلما به قطعا مقطوعا ـ أنه إحتضن حادثة الإسراء والمعراج وهي الحادثة التي تستوعب أمرين لهما من القدر الأعظم في الدين : القدس والصلاة.
ألم يكن بالإمكان إختصار المسافة بين مكة وبين سدرة المنتهى؟ فلم كانت المحطة مقدسية خالصة؟
الدرس هنا هو أن القدس آية من آيات هذا الدين وفقرة من فقرات شريعته وحضارته فمن أقامها ـ أي حررها كما فعل الفاروق ثم الأيوبي عليهما الرحمة والرضوان ـ فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين حتى لو صلى صلواته الخمس والجمعة في رحابه. أليست لنا سورة الإسراء في كتابنا ورمزيتها القدس وفلسطين. رجب إذن حاضن للقدس وهو حاضن كذلك لأول فريضة إسلامية ـ بعد فريضة الإجتماع في مكة سرا في دار الأرقم وبعد فريضة العلم كذلك ـ من الفرائض الإسلامية المعروفة أي الزكاة والحج والصيام. حرمة رجب معناها حرمة الصلاة وحرمة الصلاة تعني حرمة المسجد وحرمة الإمام عندما يكون إماما لا يؤم الناس إلا برضاهم كما ورد في الحديث ” ثلاث لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا : رجل أم الناس وهم له كارهون …” وحرمة رجب تعني حرمة القدس المغتصب المحتل. لذلك حرم رجب والله أعلم. المسألة إجتهادية ظنية وليست قطعية ولا بأس هنا من الإجتهاد والتفكير. أليس التفكير فريضة إسلامية كما قال بحق المرحوم العقاد.
6 ـ لا يعنينا هنا لم حرمت الثلاث الأخرى هل بسبب تأمين فريضة الحج للناس جيئة وذهابا سيما أنه هناك تجتمع لأول مرة حرمة الزمان مع حرمة المكان لتثمر حرمة الإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من الدين. لا يعنينا ذلك الآن لخروجه عن أربنا. ولكن المؤكد أن حرمة الزمان المحرم ثلثه كاملا ـ والثلث كثير كما علمنا عليه السلام ـ وحرمة المكان إنما هما لحرمة الإنسان بناء الرحمان سبحانه بل صنعه الذي يغضب لهدمه بغير حق بأكثر من غضبه لهدم الكعبة التي حولها نطوف وفيها نبكي ونتضرع ونعبد ونسترجع الإبراهيمية المقاومة.
7ـ مخ هذه الكلمة هو أننا نستقبل رجبا الحرام أفلا يليق بنا أن نلتفت إلى الرسالة التي تحملها حرمته ـ وحرمة الشهور المحرمة الثلاثة الأخرى ـ أي رسالة تحريم الإنسان أن يبغى عليه بغير حق. كيف نستظل بشهر ونحن بين جهل رسالته وبين الكفر بها. ما الذي أودى بالإسرائيلية في القرآن الكريم؟ أليس هي التحايل على الدين في قضايا التسبيت والشحوم وغير ذلك. لم قص علينا قصصا وروي لنا رواية؟ أليس لإجتباء العبرة وإقتناء الدرس؟
8 ـ مخ هذه الكلمة بهذه المناسبة هي:
أ ـ أليس قمينا بالتيارات الإسلامية التي يقتل بعضها بعضا في المشرق الإسلامي ـ بل وفي مغربنا نحن كذلك وإن بوتيرة أدنى ـ أن تصون لهذا الشهر حرمته التي شرعت بالدين الذي به يؤمنون فيغمدوا أسيافا شبعت حتى تخمت من رقاب الناس ودمائهم. ها قد قتلتم الذي قتلتم فيما سلف من الزمان غير المحرم. ألم ترتو سيوفكم من لحومنا بعد. ألم تشبع نيرانكم من مساجدنا وديارنا بعد. ما شرع سبحانه حرمة الزمان إلا لتغمد السيوف وفي إغمادها يفيء الناس إلى رشدهم محاسبة وتقويما ومراجعة لعلهم يفيؤون من بعد ذلك إلى الحق فيغمدوها أبدا إلا بحقها. هي فرصة تشريعية للمراجعة والمحاسبة والنظر والتفكر. هل يمنحنا التشريع فرصة ثلث الزمان كله فنهدرها.
ب ـ أليس قمينا بنا نحن كذلك ـ التيارات المتحاربة والتيارات المتفرجة وكلنا متفرجون تقريبا ـ أن نلتقط الدرس الثاني لحرمة رجب أي القدس السليبة. ألم تصمد حماس حتى ملها الصمود وظلت تتجرع آلام الحصار من بعد الحصار فمن خيانات عربية رسمية وذهول عربي شعبي إلا قليلا حتى إنقلبت الموازين من بعد الثورة المغتالة ليسرق الأسماع والأبصار هؤلاء الذين وفروا للصهاينة المحتلين وحفاءهم عربا وعجما فرصة لملمة الجراحات. ها قد توجهت أنظار الدنيا كلها إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها .. هل مازال منا ومن غيرنا من يذكر القدس وفلسطين والمقاومة. المقاومة اليوم هي بيننا في تصفيات حسابات شيعية سنية أو فارسية عربية أو رسمية شعبية وغيرها. أي المقاومة الأصليية التي هي مفردة من مفردات كتابنا الذي لا ينطق عن الهوى. أين المقاومة الأولية الأصلية لتحرير الأرض أولا من المحتلين. ثم تأتي تصفية حساباتنا الداخلية إذا كان لابد لنا أن نصفيها بالأسياف والدماء والنيران.
تلك هي الرسالة من رجب الحرام وهو يهل علينا فهل إستوعبنا رسالة رجب الحرام : حرمة الإنسان مالا وعرضا وبدنا وفردا وأسرة وجماعة + مشروعية المقاومة لتحرير القدس الشريف العظيم إتباعا للفاروق والأيوبي عليهما الرحمة والرضوان + أولوية ومركزية عماد الدين أي الصلاة فرادى وجماعات ومساجد وعمارات للمساجد وتحرير قضية الإمامة ووظيفة المسجد بين التوظيف الحزبي ـ وليس السياسي إذ الرسالة السياسية الحضارية العلمية الجامعة للمسجد وللإمامة محكم من المحكمات وليس متغيرا من المتغيرات ـ وبين الشعب الإعلامي الذي يريد تمسيح الدين أو تكنيس المسجد.
والله أعلم.
الهادي بريك ـ تونس