طلب مني الأخ الكريم أحمد عبد النبي ـ أحد أقدم المقاومين في النهضة ـ تحبير كلمات بمناسبة ذكرى السادس من جوان حزيران أي ذكرى الإعلان عن حركة الإتجاه الإسلامي في تونس في عام 1981 أي قبل أربعة عقود إلا سنوات ثلاث. لا أملك إلا أن ألبي الطلب لقدر هذا الرجل عندي ولمنزلة ( النهضة ) عندي ثورة وحزبا معا. وهل العبد الفقير إلى ربه تعالى عدا تلميذ على أعتاب هذه المدرسة الكبيرة إذ عندما أراجع قمطر حياتي وقد باشرت اليوم بالتحديد ( 6.6.1955) العام الرابع والستين من عمري ألفى أن ولي النعمة العظمى سبحانه منّ عليّ بعطية الحياة إذ جعلني منتسبا إلى هذه الدوحة التي تعلمت ـ ولن أزال ـ من رجالها ونسائها
من فقه الحياة ومهارة الإجتماع ما به حفظني سبحانه. وهي مناسبة لأزف إلى أولئك الرجال والنساء جميعا أطيب الكلام وأحرّ السلام وأخص منهم الشهداء الذين فدوا تونس العظمى بأرواحهم فما جلسوا على الأرائك التي تنقل الينا اليوم أجهزة التصوير وثيرها البراق وحسبهم أن الله يعلمهم وأن حساباتهم ضمت مجاهداتهم وكثير منها لا يعلمها سواهم بسبب مناخات السرية التي فرضتها سنون العجف والقهر في العقود الأخيرة وربما بسبب سرّ آخر من أسرارهم في المقاومة إعلاء لقيم الإسلام والحرية والوطن الحبيب وهو سرّ الإخلاص وإكسير الحياء
تونس الجديدة هبة الزيتونة والنهضة
يبدو هذا الكلام اليوم غريبا وعجيبا وستثبت الأيام بعد أن تستقر أوضاع البلاد في العقود القابلة إن شاء الله في إتجاه تثبيت مطالب الثورة أن تونس الجديدة هي هبة عوامل حضارية وثقافية متكافلة منها على وجه الأولوية ما صنعته الزيتونة المعمورة حفظا للهوية العربية الإسلامية للتونسيين والتونسيات في أيام حرب هوجاء ضد الإسلام دينا بالأساس الأول وما صنعته حركة النهضة حفظا للتيار الوسطي المعتدل المتوازن تفكيرا دينيا وإصلاحيا سياسيا معا في أيام عربدت فيها الدعوات الهوجاء سواء بإسم الثورة البروليطارية ضد البرجوازية في عقد السبعينات أو بإسم تطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله في العقد الأخير. نخطئ عندما نحاول قراءة الكسوب الحضارية بتعجل إذ الحركات الإصلاحية مثلها مثل الزيتونة لا تثمر إلا بعد أن يتمكن جذرها في الأرض فتختبرها الأرض ثم تغذوها بحنانها. ألسنا اليوم نتفيأ ثمرات مصلحين كانوا في زمانهم مغمورين من مثل علامة تونس الأعظم عبد الرحمان إبن خلدون في فقه العمران أو الفقيه المقاصدي الأشهر محمد الطاهر إبن عاشور وستجني الأجيال التي سال لعابها اليوم نحو فرنكفونية غير بريئة غنما عندما تكتشف أن رجلا كبيرا مثل إبن عرفة حفظ لها قبل أن تولد بقرون طويلة لسانها في أيام سيكون فيه اللسان العربي القح السليق هو لسان الحقوق والحريات والحرمات بل هو لسان الإنسان
ما هي النهضة الثورة ؟
عمري اليوم في ( النهضة ) أزيد من أربعة عقود كاملات وعندما أستقرئ كسبها بتأن وتمهل وبعقل نقدي ألفى أن النهضة الحزب ـ وهي حزب سياسي في الحقيقة منذ 6 جوان 1981 ـ خاضت معارك مختارة مرة ومكرهة مرات فأصابت في بعضها وأخفقت في بعضها الآخر سوى أن فريدة النهضة هي أنها صانت بيضتها الوطنية فما أفلحت محاولات ـ الله وحده يعلم آمادها وسيروي التاريخ للأجيال القابلة منها ـ في جرّها إلى الفسق عن طوق الوطنية الحامي. وأكرم بها خلّة في عالم تنخره المخابرات والإستعلامات موظفة النساء والمال. وهل ندّ كبار المصلحين عن الوقوع في الإخفاق السياسي؟ أبدا. السياسة ساحة معركة شرسة ضارية طاحنة لا يفخر فيها أحد بالظفر دوما. والظفر السياسي كله هو في الإحتماء من الوقوع في الخيانات الوطنية ومن الإنخراط في الإكراه والعنف والإرهاب.
هذه هي النهضة الثورة التي أفخر بها
أوّلا : النهضة مدرسة في التجديد الديني سوى أن الأجيال الجديدة لا تكلف نفسها إستقراء التجربة وفيها من سائلات المداد ما يكفي لطالب العلم والباحث عن المعرفة وقليل ما هم في أيام شبكات التواصل الإجتماعي. الدين عندي سلاح ذو حدين حتى لو كان الإسلام نفسه فإما أما يتأول بتكامل وعمق ومقصدية وموضوعية وواقعية فيكون بلسما يعالج الجراحات ويساهم في نفض غبار الإنحطاط ومقاومة ضد القهر والحيف والإنقسام والإحتلال وإما أن يقرأ قراءة فاسدة فيكون عربون قهر وإكراه. فإذا كان ذلك كذلك فإن النهضة مدرسة أحسنت التعامل مع الدين بسبب أنها نشأت جماعة دينية صغيرة ولا زال الإسلام يغذي منهاجها الإصلاحي وهل هناك جماعة اليوم تملك الشجاعة الكافية فتعلن مسافتها عن الإسلام؟ تجديدات النهضة في قضايا التراث والمرأة والغرب والديمقراطية والسلمية والتغيير والبيئة والمنافسات السياسية وغير ذلك كثير لا يحصى جديرة بالإستيعاب من لدن أبنائها وبناتها من الأجيال الجديدة وهي اليوم موضوعات لشهادات جامعية عليا في كثير من أصقاع الأرض
ثانيا : النهضة مدرسة في إدارة الجماعة المقاومة. ليس هناك أعسر من إدارة الجماعات ولذلك لا يلقى حاكم ولا مسؤول من الرضى حتى لو أحسن إلا قليلا ولا ريب في أن إدارة الحركات الشابة المقاومة في واقع منخرم لصالح الرداءة والقهر أعسر وأعسر. أصابت النهضة هنا وأخفقت قطعا ولكن الحصيلة الإجمالية وبإستخدام آلية المقارنة خاصة نلفى أن النهضة أفلحت كثيرا في تلك الإدارة إذ أنها ما برحت أن توسع حجمها الشعبي في سنوات قليلات معدودات وهو توسع كيفي كذلك إذ ضمت إليها من العامل الفلاحي البسيط وسائق الشاحنة إلى الإطار العالي في شتى الإختصاصات بل ضمت إليها الرجال والنساء على قدم المساواة وخاصة في البداية وظلت كذلك متنوعة تنوعا عجيبا. يعزى ذلك النجاح الإداري رغم إخفاقاته التي لا تنكر إلى عوامل منها غلبة الروح الديمقراطية وليس هناك من يحرز دوما على أحسن عدد مسنود في المادة الديمقراطية بسبب تشوف اللأنا القاطنة في فؤاد كل واحد منا حكمة ومشيئة معا من الباري سبحانه. يكفي أن النهضة لم تنقسم ولو مرة واحدة على خلفية إدارة لا ديمقراطية ولا يضيرها أن يستقل هذا أو ذاك إذ أن ذاك يحسب لها وليس عليها ومع ذلك لا براءة من إخفاقات وأخطاء والعبرة بالخط العام أما إستغلال المنزوعات من سياقاتها فيحسنه كل خصم أو أحمق لا يرى فيك عدا السواد القاتم. ومن تلك العوامل كذلك الواقعية الفكرية والسياسية التي درجت عليها النهضة إذ برأت نفسها وفي سنوات مبكرة جدا من المثاليات المحلقة وليس كالواقعية والتواضع الأدبي والفكري بلاسم تساعد على الإدارة المعتدلة لجيوش لجبة هي اليوم بعشرات الآلاف سوى أن معيار الكثرة لم يكن يوما هو المقدم على أحقيته
ثالثا : النهضة مدرسة في النضج السياسي والرشد الإجتماعي. إذا ألفيت الإنقلاب والتبدل فأعلم أن صاحبه إما أن يكون طائشا حادا مذبذبا أو رشيدا ناضجا يقرأ التغيرات قراءة صحيحة. عرفت تجربة النهضة بالإنقلابات سواء في المستوى الفكري أو في المستوى السياسي أو الحزبي التنظيمي. إعلان السادس من جوان 1981 لم يكن إعلانا إعلاميا سياسيا بكل المقاييس. بل كان إنقلابا عظيما والذين عاشوا ذلك المنقلب في الأوعية الحزبية الداخلية يدركون التدافع الحاد جدا بين خيارين كبيرين موثقين في ورقات وعلى كل خيار عسسه وحرسه وسدنه. كان إنقلابا فكريا وحزبيا وسياسيا معا إذ أنه كان مبكرا جدا وشاملا ومباغتا للساحة الوطنية والدولية التي أشادت به في المستوى الغربي يومها وما على المرتاب في ذلك عدا مراجعة التصريحات السياسية والإعلامية التي واكبت الحدث. غير أن المحزن ـ وهو منظور مرقوب بسبب تراكمات الإنحطاط ـ أن الأشقاء في الشرق خاصة قرؤوا الإنقلاب قراءة لا تبتعد عن قراءة حالة المرتد. بعضنا يتحرج اليوم من ذكر ذلك ولكن تزوير التاريخ جريمة وعفا الله عمّا سلف إذ كان يومها ذاك مؤذيا لنا واليوم إلتحق الجميع به وقليل منا من يسند الفضل لأهله كأننا لا نقرأ ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم). إنقلاب من جماعة دينية دعوية إلى حزب سياسي ديمقراطي وطني يضم المرأة قيادية ويستلهم من الإسلام وهو عند المسلمين إلى الأسطورة والخرافة أدنى ليكون نظرية لمقارعة الإستبداد السياسي والحيف الإجتماعي وينخرط في العمل النقابي ويعترف بالقانون ويطلب تأشيرة وينضوي تحت حزب ؟؟؟؟ على الأجيال الجديدة أن تعيد قراءة كل ذلك لأن المعركة ليست سياسية فحسب والمعركة السياسية نفسها تتغذى من أمعاء المعركة الفكرية وليس هناك سياسي لا يفكر. وإنقلابات أخرى أكبر منها إنقلاب مؤتمر مارس 1995 وله قصة أعجب وأعجب وعسى أن تفرج عنها مذكرات العبد الفقير إلى ربه يوما. هو إنقلاب أحدث دويا داخلنا ثم إهتدينا إلى الصراط المستقيم سياسيا بفضل الله سبحانه. لا أسرّ كثيرا عندما أقرأ من أبناء النهضة وبناتها ومن لفيفها اللجب إنبهارهم بالخط الوطني السلمي المدني التوافقي الذي إنتهجته النهضة بعد الثورة. لم؟ لأن ذلك يعكس جهلا لتاريخ النهضة بكل بساطة وبصراحة قد تؤذيكم والحق أولى وأقدم. أن ينبهر غيركم فهذا مفهوم. هل يمكن للمنبهر نفسه أن يلقي ببضاعته الجديدة وهي تصارع الأمواج داخليا وخارجيا في أسواق الجدل؟ لا أظن إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب. بالخلاصة هي مجموعة إنقلابات فكرية وسياسية وحزبية تعكس الروح التجديدية في النهضة التي تؤمن أن من لا يتجدد يتبدد بالضرورة.
أكتفي بهذا القدر من جوانب النهضة الثورة لأثبت أن النهضة على الصراط المستقيم فكرا وإصلاحا لا بسبب نجاحاتها السياسية التي بها أعفى الله سبحانه هذا الوطن الحبيب تونس من دماء وأشلاء هي اليوم في عيون المراهقين دماء زكية وغدا تكون نقمة وجروحا لا تندمل وعندما تضحي النهضة لينجو وطن فلا أظن أن هناك إيثارا في الخلق أكثر منه ينعا سوى أن المراهقين يحبسون أنفسهم في لحظة اليوم ولعلهم معذورون إذ ليس من رأى من الماضي كمن سمع عنه والزمان كفيل بجبر كل شيء. النهضة يمكن أن تخسر سياسيا وهذا قدر يجري عليها وعلى كل كيان سياسي فما إستقامت السياسة لأحد على طول الوقت ولو كان نبيا مرسلا لأن السياسة هي إدارة الناس وأعسر ما في الناس شهواتهم ورغباتهم وطموحاتهم وتخوفاتهم فضلا عن أن الأرض اليوم تفور فورانا عجيبا بإرادات الفساد والإفساد والتعويق متمترسة متبرجة بقوى مدججة وأموال أثقل من أموال قارون. ولكن النهضة عندي هي النهضة الثورة في عالم الدين وعالم الفكر وعالم الفن وعالم الذوق وعالم التأطر في الأوعية المناسبة وعالم التفكير السياسي وعالم القراءة الناضجة الراشدة للمحيط دون كبر ولا عجب ودون تهوين أو إنسحاب صوفي أو عربدة سلفية. عندما تصون النهضة رأسمالها ذاك فهي تساعد الثورة التونسية على تحقيق أهدافها ولكن بعد عقود وليس بعد سنوات وليرض من بسنن الله راض وليسخط المراهقون
الهادي بريك ـ المانيا
brikhedi@yahoo.de