ما ان عدت إلى بيتي في مساء هذا اليوم ( 6.6.2019) منهكا بعد طواف على بعض الأصدقاء اختلطت فيه التهاني بالتعازي حتى فاجأتني حفيدتي الكبرى تهنئني بعيدي مولدي الخامس والستين وبالذكرى الثامنة والثلاثين لميلاد حركة الاتجاه الإسلامي . كنت غافلا في الحقيقة عن المناسبتين اذ نشأت في بيئة لا تحتفي بهذا التقليد ليس لأسباب دينية كما يهرف المرهقون من طحن الحداثة ولكن بسبب قهر العيش الذي لا يدع مجالا لآبائنا ينشغلون فيه بمثل هذا . بريق الذكرى الأخرى بهت في خاصة بعد الثورة بهوت أطلال المظلومية.
أخضعت نفسي لقراءة سريعة في حصاد زهاء أربعة عقود (6.6.1981-6.6.2019) فظفرت بان العقل السياسي الإسلامي التونسي واحد لم يتغير .
كيف جاء الإعلان الأول ؟:
اكتشف بوليس بورقيبة حقيبة تحوي هيكلة التنظيم السري للجماعة الإسلامية يوم 5.12.1980 بسبب خطا امني اذ لم يكن هناك ما يشير في السنوات السابقة (1969-1980) في العقل البوليسي عدا إلى انتشار ظاهرة تدين مستورد لا يخشى منه على المشروع التغريبي . بورقيبة – الذي اصر على ذكائه محتسبا ما يصيبني من أصدقائي – بادر في شهر ابريل 1981 في خطاب له إلى الإعلان انه لا يمانع من وجود تنظيمات وطنية وبعدها بشهر واحد انعقد اول موءتمر استثنائي للجماعة التي يسميها الإعلام يومها الاتجاه الإسلامي وصادق على استفتاء موسع جدا جرى في غضون المدة الفاصلة بين الانكشاف وتصريح بورقيبة وثمرته ان زهاء ثلاثة ارباع القاعدة التنظيمية للجماعة ( تتركب من مستويات ثلاثة ) يوءيدون مشروع الإعلان الذي نوقش جنبا إلى جنب مع مشروع عدم الإعلان . وتقرر ان يعجل بالإعلان تفويتا لان تضرب الجماعة وهيكلها العظمي بين أيدي البوليس الذي صفى اليوسفيين والزيتونيين والشيوعيين والنقابيين ولولا شفاعة وسيلة عليها الرحمة في الليبراليين بزعامة شقيقها رحمه الله لما اخطاتهم التصفية .فكان ذلك في مكتب الشيخ مورو في حركة سياسية دوخت المراقبين اذ لا زلت ازعم ان ذلك الحدث هو الأول في التاريخ الإسلامي ليس بعد إسقاط السقف العثماني فحسب بل منذ قرون . ازعم ذلك لانه لأول مرة يقوم مجموعة من الدراويش الذين لا مكان لخرافاتهم خارج المسجد بالإعلان انهم حزب ( وليس جماعة ولا فرقة ولا مذهب ) سياسي ( وليس ديني أو طائفي ) مدني ( وليس غيبي ) ديمقراطي ( وليس أموي ولا عباسي ولا تيوقراطي) وأنهم قدموا مطلب تأشيرة لدى الإدارة التي تحتفظ بالحقيبة الناطقة بحقيقتهم . ثورة في العقل السياسي الإسلامي المعاصر مثل هذه لم اعثر على مثلها ولا يضيرني الذين يخلطون بين العقل وصاحبه اذ ان الشريعة علمتني التمييز بين الفعل والفاعل اذ انشد إلى الفعل به أتعلق والفاعل لا يثبت كما في النحو لا يضيره ان يدخل على أي فعل ليعبث بحركته .
أنماط تفكير اساءت الفهم :
١- الذين يحاكمون هذا الكيان بعقل ديني ( ديني لا إسلامي وبينهما تمييز من تنكبه اخطا ) لم يتخلصوا من اثقال التراث ولذلك ترى خطابهم ( العودة إلى الدين ) رجعيا متصورين ان الدين خلفهم ولو عاشوا عصرهم بالدين لفقهوا ان الدين مثال يظل في الأفق بازغا فهو لا يعاد اليه بل يتقدم في اتجاهه . الذي ينشد العودة إلى الدين لن يظفر بالدين لان الدين الذي تخلفه العصور وتطويه ليس دينا بل تراثا وتاريخا وسلفا لا يعاد اليه .
٢- الذين يحاكمون هذا الكيان بعقل ثوري يهدم كل شيء في وقت واحد لم يستوعبوا فلسفة الشريعة في الإصلاح والتغيير قياماً على التدرج والاختراق البطيء وما يتطلبه ذلك من مصالحات وترجيحات وموازنات امتلات بها سيرة صاحب الرسالة الذي لم تستفزه غضبات الفاروق ومن معه في الحديبية على التنازل عن حقه في العمرة وإقراره حق الردة لمن شاء ولا دعوات بعضهم ثارا من رجال النظام القديم يوم الفتح . ولم يستوعبوا أوزان القوة اليوم وكان التاريخ ليس فيه الذي فيه من صعود قوى وانهيار أخرى .
خلاصة عقل سياسي واحد :
١- عقل متشوف إلى العلنية والقانونية والديمقراطية مسكون بالسياسة اداة للإصلاح اذ ما ان انكشف أمره دخل في حرب ذكاء مع بورقيبة وبذلك فوت عليه محاكمة بتهمة تنظيم سري بل طوق ذلك العقل نظام بورقيبة بحبل الديمقراطية فظفر بتعاطف دولي غير مسبوق . وظل بعد ذلك عصيا على ادراجه تحت الإرهاب والعنف وبدا نظام بورقيبة بالانهيار .
٢- عقل فرض معالجة الإسلام بأفق ديمقراطي لأول مرة في التاريخ . هذا ما اصر عليه زاعما أني من اوعى الناس باخطاء التجربة التي عدمت الا قليلا نطاسيا يحسن وضع السبابة على موضع الداء.
٣- عقل حال دون الشيوعيين ودون اقتراف الجريمة التقليدية التي يحسنونها اذ حمى الدولة بوجوده فيها والذين يهونون من هذا جدير بهم ان يستمعوا إلى اثار تجفيف المنابع لانهم كانوا في تلك الأيام أطفالا .
عقل سياسي لا ديني …
عقل معاصر لا سلفي …
عقل انساني لا قومي …
عقل اصلاحي لا ثوري …
عقل عملي لا فلسفي …
عقل واقعي لا مثالي …
تلك قراءتي التي اطمئن اليها دون غفلة عن قيمة النسبية التي تفرض مساحات صواب في قراءات أخرى اذ لا يصيب الحق في السياسة احد ولكن بعضه ودون غفلة عن اخطاء وقصورات كثيرة شابت التجربة الطويلة .
سلام إلى شهداء التجربة والى جيل تخلى أكثره عن اعباء يتحملها جيل جديد …
سلام من الله ورحمة منه وبركات…جازاكم الله خيرا …نعم المقال ونعم الموقع الذي نحن في أمس الحاجة إليه ..باركالله في جهودكم جميعا
بارك الله فيكم