العقيدة : وددت أن تراثنا عفا عنها

سئلت في بحر هذا الأسبوع فحسب سؤالين في هذا الصدد أولهما سؤال تقليدي يتيه على شفتي كل متدين حديث في الغالب وهو : بأي كتاب في العقيدة تنصحني؟ والسؤال الثاني كان على صورة إستهجان من أحد المستمعين في المسجد إذ قال لي : لم أسمع عدا منك أن ” شيخا ” ينصح الناس بدراسة العقيدة وتعلمها من مصدرها الأوحد القرآن الكريم أو السنة ويرغب الناس عن أي كتاب آخر ولا ينصحهم به أولى وأحرى. فكان ذلك باعثا لتحبير هذه الكلمات في موضوع العقيدة

مصطلح مبتدع وخطير لمن لا يفقه أسبابه

أجل. كلمة العقيدة مصطلح حديث مبتدع إستعيض به عن الإيمان الذي ملأ كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. كثير من الشباب المتدين الحديث لا يدرك أن المصطلح المبتدع ـ أي العقيدة ـ ثمرة المعركة الكلامية في العهد العباسي وهي معركة كانت ضرورية في أيامها كما قال ذلك أحد أكبر أقطابها أي عضد الدين الإيجي الذي أطر المعركة في إطارها الصحيح أي مقاومة الغزو الفكري اليوناني ولكن الذي حدث بعد إنقشاع ذلك الغزو بسرعة بسبب قوة الأمة في تلك الأيام هو أن المعركة لم ترم أوزارها بل ظلت مشتعلة بين الفرقاء المسلمين أنفسهم وبذا نشأت المذاهب الكلامية وبذا عرف العهد العباسي بأنه وبحق وعدل حامل لواء المعرفة في التاريخ الإسلام وبلا منازع بمثل ما حمل العهد الأموي لواء الفتح شرقا وغربا. يمكن أن يكون المصطلح الحديث المبتدع مناسبا لتلك الأيام وفي ظل تلك المعركة ولكن الذي حصل هو أن الأمة من بعد ذلك أوت إلى الإنحطاط فلما برغت نجوم النهضة الأولى قبل قرون قليلة إستيقظ المصلحون على إرث عريق حيل بينهم وبينه بمصطلحات كثيرة فمنهم من عمل على تنقيته من الأوشاب والأوضار ومنهم من إستصحب ذلك أن يتعلق الناس بالقشور فحسب ومنهم من لم يدرك أن الكلمة في حياة الإنسان ليست حمولة لغوية فحسب بل هي قبل ذلك وبعده حمولة ثقافية ومن هؤلاء كثير من الشباب المتدين الحديث ممن لم يتلق العلوم الشرعية في مظانها سواء رسميا أو أهليا ومما غذى المعركة اليوم مناخات الحرب الساخنة بين التيارات السلفية والتيارات الصوفية . الخلاصة هنا هي أن مصطلح العقيدة إما أن يحمل على أساس أنه ترجمة إسلامية عباسية لقيمة الإيمان القرآنية حاجة منهاجية لمقاومة الغزو اليوناني وبذا يستخدم المصطلح مبنى ويظل المقصود هو أصله القرآني وإما أن يعدل عنه إذ أن أخطر ما يحمله هذا المصطلح فينا اليوم هو أن العقيدة جذر مستقل ذو أركان ستة أما العلاقة بينه وبين الحياة فهي محل نظر وعندما يؤول بنا المآل في إثر إبتداع مصطلحي حديث إلى مثل هذا فيا خيبة المسعى. ورغم كل ذلك فإن المحكم عندي هو أنه لا عبرة بالمصطلح والأسماء كلما كانت المعاني محررة تحريرا صحيحا ولا مشاحة في المصطلح كما قال الأقدمون والعبرة بالمقصد لا بالمبنى ولكن العلم الصحيح بأسباب الميلاد وملابسات التأسيس مثله مثل العلم بمناسبات النزول أي يساهم في تعميق الفقه وتصحيح الفهم

الإستخدام الصحيح المعاصر للعقيدة

إنه لمؤسف حقا أن تمتلأ مناهج جامعاتنا وكلياتنا في الأعم الأغلب إلا قليلا ـ ومثلها شعبيا وأهليا عدا المدونات التراثية والمعاصرة وهي بالمئين ـ بدخان المعارك الكلامية التي عفا عنها الزمن وحالنا معها هو بالتمام والكمال مثل حال ” دون كيشوت وطواحين الهواء ” التي قرأنا عنها ونحن صغار يافعون أي التجهز لمعركة غير معركتنا. أكثر المشتغلين اليوم بالعقيدة يشنون حروبا جوفاء خارج التاريخ والجغرافيا على هذا المذهب الكلامي أو ذاك وبأدوات تحليلية صماء عجماء تنادي الناس من مكان بعيد وهي بذلك تظل حبيسة تلك الفئات المتدينة فإذا خرجت عن ذلك الطوق شوشت على بقية الناس تدينهم. ذلك هو المنهج اليوناني ـ وهو نطفة الحضارة الغربية المعاصرة ـ في معالجة العقيدة وهو منهج لم يحفل به الإسلام الذي توخي المنهج العقلي المنطقي في بساطته وتلقائته وبعده عن الإغرابات والتجريدات وبذلك جمع الناس حوله وإنداح بسرعة إذ هو يلبي مطلبي : اليسر والسلاسة من جهة والصرامة العقلية من جهة أخرى. كم عدد الذين يستخدمون العقيدة الإسلامية اليوم في معركتها الصحيحة مقاومة للتحديات العقدية المعاصرة؟ قليل من قليل. أولئك هم الذين تمكنوا من تفتيت النظرية الماركسية الشيوعية بأدوات تحليلية نفذت إلى صدور الشباب في السبعينات وما بعدها بيسر وسلاسة فجادلوا بها عبيد الفكر الغربي وأطردوهم من الجامعات والكليات والماهد ودور الثقافة طردا ثقافيا وفكريا. أولئك هم الذين يواصلون المعركة اليوم ضد العالمانية : بيت العنكبوت الذي أوى إليه الماركسيون والشيوعيون. وأولئك هم الذين ينشغلون اليوم ـ وقد أوشك التحدي الغربي فكريا على الأفول ـ بالتحديات العقدية الداخلية مقاومة فكرية للسلفية المعاصرة المغشوشة أو الصوفية المنحرفة أو التدين الليبرالي الذي لا يرد يد لامس. قلت بالأمس في خطبة الجمعة للناس : لا رسالة لي سوى أن أتعاون مع العاملين على إمضاء السلاح العقدي الإسلامي الذي به تقاوم التحديات المعاصرة وليس هناك تحد عقدي وفكري معاصر اليوم أمام المسلمين أكبر من التحدي العلمي المعرفي الذي به يتبرج الغرب علينا وبإسمه يسحقنا ويصنفنا خارج التاريخ والجغرافيا وخارج الإنسانية ولا وظيفة اليوم للمسلم عدا تأبط المنهج العلمي نفسه الذي جعل كل نبي يعالج تحديات قومه بلسانهم هم فإذا كانوا أهل سحر عالجهم موسى عليه السلام بعصاه في يوم زينة وإذا كانوا أهل رؤى منامية عالجهم يوسف عليه السلام بتعبير يقدمه إلى سدة الحكم إبتغاء إمضاء العدل الإجتماعي في سنوات عجاف وإذا كانوا أهل بيان ساحر عالجهم خاتمهم عليه الصلاة والسلام بتحد من جنسه. إذا كان العلماء ـ علماء الدنيا والعلوم والمعارف ولا شأن لعلماء الدين بهذا ـ هم ورثة الأنبياء فإن تركة النبوة هي مقاومة التحدي القائم واقعيا وليس هناك من تحد يقهر أمة الإسلام اليوم أكثر من تحدي العلم والمعرفة. تلك هي خصوبة القرآن العظيم وتلك هي فريدته التي تجعله جاهزا لكل معركة معاصرة ولكل تحد جديد. أين المحامون كما قال الشيخ الغزالي عليه الرحمة والرضوان؟

العقيدة صنيعة الكون نظرا وليست ثمرة كتب أو جدالات عقيمة

لم ألتقط فريدة عجيبة أذهلتني من الإسلام أكبر من إلتقاطي أن العقيدة ـ الإيمان الذي يصنع الحياة بالتعبير الإسلامي ـ مصنعها الأول إنما هو الكون بسمائه ونجومها وكواكبها وشموسها وقمورها وسحبها وبأرضه أشجارها وأطيارها وأنهارها وحرثها ومائها ونعمها وبالإنسان تركيبه البيولوجي والفزيولوجي. لا يصنع الإيمان إلا في مخبر الكون نظرا متفكرا متدبرا مقبلا بعقل ناقد باحث يحكي تجربة سقوط حبة التفاح وإكتشاف قانون الجاذبية. أبكي بالدموع الحرى عندما أعلم أن أكثر الفقهاء والعلماء في الدين قديما كانوا في الأصل علماء كون ودنيا فهذا طبيب وذاك جراح والآخر فلكي والرابع مهندس وأن أكثر هؤلاء اليوم دجالون أفاكون كذابون ظل الشيطان يؤزهم أزا حتى جعلهم خدما أوفياء للسفاحين والقتالين . إلتقطت ذلك بجهد فردي نظرا في الكتاب الذي لا أزلت أكتشف لآليه وهي تقول لي هذه الحقيقة التي غيرت حياتي : الكتاب كله عدا ما لا يزيد عن ست صفحات من أزيد من ستمائة صفحة بالتجليد المعاصر .. الكتاب كله ـ كله دون أدنى مبالغة وهو بيننا لمن أراد ـ لا رسالة له ولا قضية يحملها إلى الإنسان عدا رسالة : بيان هوية الله سبحانه. من هو الله؟ ماذا يفعل وما هي أسماؤه؟ أزيد من 99,99 بالمائة ـ ودون أي مبالغة وهو بيننا لمن أراد ـ من رسالة الإسلام هي التعريف بالله. العبرة هي : كل هذا الكتاب الطويل نسبيا وهو يعرج بك تطوافا في الكون وفي التاريخ وفي النفس لا رسالة له سوى تعريفك بالله فإذا عرفت الله عرفت ذاتك وعرفت رسالتك وأمنت الحياتين : الفانية والباقية. عندما أقول هذا للناس أجد حرجا في البداية لأنهم سيقولون : وأين الصلاة والصيام والزكاة والحج وأين المحرمات وأين وأين …؟ سألت نفسي السؤال نفسه فكان جوابي لنفسي : بميزان المقارنة ومن داخل الكتاب نفسه ـ وليس خارجه ـ لا قيمة لكل ذلك إذ أن ذلك مقتضى محتوم أي أن من عرف ربه بمثل ما عرض هو نفسه لنا نفسه إقتضى ذلك طاعته في العبادة والحرام وغير ذلك. أما تقديم العبادة والحرام على الأصل فهو المنهج المقلوب الذي ما جنينا منه سوى اللؤم والتأخر دينا ودنيا معا. جريمتنا أننا إعتقدنا لقرون سحيقة عريقة طويلة أن القرآن كتاب دين من جهة وكتاب فرد من جهة أخرى. الحقيقة التي علينا الفيئة إليها هي أن القرآن الكريم لا هو كتاب دين ولا هو كتاب فرد. هو كتاب حياة بدينها ودنياها معا وهو كتاب أمة وليس كتاب فرد فلا يسعد به فرد معزول حتى لو تربع على عرش معرفة الله سبحانه

قال صاحبي :ولكن القرآن عسير على عامّي مثلي

كان السائل الأول مثقفا وله من العلم نصيب فلم أحتج إلى وقت كثير لأقنعه أن كتاب العقيدة الأول والآخر إنما هو القرآن الكريم لأنه لم يتمحض لأي قضية أخرى عدا قضية العقيدة. أما الآخر فقال لي : ولكن العامة مثلي لا يفهمون العقيدة من القرآن الكريم وإنما من عقيدة فلان وفلان .. قلت له : بالعكس تماما إذ أن نظم القرآن الكريم وخاصة في الحقل العقدي أيسر من اليسر وأبين من الإبانة إذ هو يطعّم الإنسان بما يكفيه من معرفة ربه الحق سبحانه بلسان عربي مبين لا إغراب فيه ولا إعجاب وكل من يقرأ عليه وهو أمي بالكامل يفهمه بيسر عجيب ولكن المشكلة هي أننا حقنّا بمصل عقيم إسمه أن العقيدة لا بد لها من كتاب آخر. ولو كان كتابا آخر مثل العقيدة الإسلامية للحبنكة ـ أو لأي عالم معاصر ـ لهان الأمر رغم أنه خلاف الأولى ولكن أكثر المتدينين اليوم يلعقون عقيدتهم من عقيدة فلان وعلان وبذا تقعد بهم ـ لأنها ميتة لا حراك بها ـ عن معالجة الحياة وتحدياتها وخاصة التحدي الفكري المنحرف داخليا ـ السلفية المشوهة والصوفية وغيرهما داخليا ـ والوافد الغازي كالعالمانية والتحدي الإستكباري متمثلا في الحكم الفردي القهري وهما أصل بقية التحديات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية

بدعة عقدية جديدة عنوانها : الفروع أصول تكفّر وتؤمّن

أختم بهذا لقيمته إذ أنك تخوض حربا شرسة حقا وأنت تحاول إقناع الناس أن العقيدة أركان ستة لا سابع لها وهي توقيفية من الله وحده سبحانه في كتابه العزيز وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر الذي درسه القرآن الكريم في أمثاله وقصصه درسا وجاءت السنة في حديث متواتر وحيد إنعقد الإجماع على تواتره هو دون سواه بذكر إسمه مضيفة : خيره وشره. من جرائمنا أننا سوينا بين تلك الأصول وبين فروعها غافلين أن تلك الأصول الستة هي الفيصل بين الكفر وبين الإيمان وبين الجنة وبين النار وبين الحق وبين الباطل أما فروعها وهي كثيرة لا تحصى فهي محل بحث وتناظر بهدوء وعلم بين الناس فلا تنثر على عامة الناس أن تكون من ذا فتنة. ولذلك أشار إليها القرآن ظاهرا ـ بالتعبير الأصولي ـ أي بغير نص محكم مفسر كما هو الشأن لأصولها. منها نزول عيسى عليه السلام بل حتى طبيعة رفعه روحا أم جسدا وروحا ومنها المسيح الدجال ومنها المهدي المنتظر ومنها عذاب القبر ومنها أشراط الساعة كالدابة والدخان وطلوع الشمس من مغربها وأخرى كثيرة لا تحصى فعلا. كلها فروع عقدية لا تحيل إلى الإيمان والكفر إنما تحيل إلى الحوار الحر المتسلح بالعلم أولا وبالهدوء ثانيا ولا أمل في حسمها لأن الله أراد بها إستنهاض العقول ودفعها إلى التفكر أن تأسن حدبا على قانون الإختلاف الذي برأ عليه كونه وخلقه وإجتماع عباده

العقيدة : وددت أن تراثنا عفا عنها

العقيدة مصطلح مبتدع حديث وليس كل مبتدع محدث سيء وخاصة إذا كان في الأسماء لا في المسميات. أصله الإيمان. العقيدة إسم قبلته الأمة كما قيل ولكن أقول : قبلته لما بدأت تستعد للأفول. المشكلة فيه أننا اليوم لا نعي منابته الخارجية ـ الغزو الفكري اليوناني ـ ولا منابته الداخلية ـ الخلافات الكلامية التي لم تكن على مسافة معتبرة من النزاعات السياسية ـ . مشكلتنا العظمى معه أننا نستصحبه قلبا وقالبا إذ نستورد معه المعارك نفسها ونحن نلتهم من لدن تحديات جديدة معاصرة. لا أدعو إلى العودة إلى المصطلح القرآني الأقح : الإيمان ولكن أدعو إلى إستيراد المصطلح كما نستورد الديمقراطية أي مجردة من حمولاتها الفلسفية. الإستيراد هو الإستيراد سواء كان من الشرق أو من الغرب أو كان من تراثنا وليس هو ملزم لنا ـ وليس الوحي ـ أو من تراث البشرية. الصانع يحتفظ دوما مادة ومعنى بحق الإختراع. إستخدام العقيدة بالإستخدام العباسي سطو على حق الإختراع

والله أعلم .

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *