تداول الناس ـ وهم على أبواب موسم الحج لهذا العام 1439 ـ كلاما يختلط فيه اللغط مع الجهل بل تصدره بعض المنسوبين إلى الدين من مثل الكاتب العام لنقابة الأئمة بتونس وقد شاهدت لقاء له مع فضائية عربية قبل أسبوعين تقريبا. مؤدى الكلام أنه لا ضير علينا في مقاطعة عبادة الحج لهذا العام على الأقل ـ بل هي فريضة عند بعضهم أو ضرورة ـ إذ أن أموال المسلمين الحجاج آيلة بصورة ما كليّا أو جزئيا إما إلى خزينة الولايات المتحدة الأمريكية أو إلى ملاهي الفساد في المملكة. ما يروّع هو أن هذه المغالطة إنتشر شررها بين الناس وتواردت الأسئلة ولم أقرأ بيانا كافيا من بعض أعلام الفقه الذين يجمعون بين الكتاب والميزان
هذه دعوة ضالة مضلة وليست ممّا يختلف فيه وهذا بيان فيها
أوّلا : الحج فريضة إسلامية محكمة ومبنى ( بالتعبير النبوي ) وليس ركنا فحسب ( بالتعبير الخالف ) من مباني الدين ومن ذا فهو في مزاولته بحسب القدرة والذكر ( بالتعبير الفقهي ) كمزاولة إخوانه من المباني الأخرى أي الصلاة والصيام والزكاة فلا يملك أحد تعطيله أو تعويقه إلا إحصارا ورد البيان فيه في القرآن الكريم نفسه. ليس الحديث عن عبادة جماعية تكافلية يمكن أن يقوم بها بعضنا ليتفرغ البعض الآخر لعبادة أخرى ( كالجهاد والفقه كما ورد في آخر سورة التوبة ). وليس الحديث عن سنّة أو حدّ لا بدّ فيه من رعاية المقصد والمحلّ وإلا علّق كما فعل الفاروق بإجماع صحابي مع أمور معلومة للناس. إنما الحديث عن مبنى صحيح ثابت محكم راسخ يلي العقيدة ولاء مباشرا. أليس الحج هو الترجمة العملية لعقيدة التوحيد كما يتعلّم تالي الكتاب ذلك من قصة إبراهيم عليه السلام مع هذه الشعيرة؟ أليست هي مترعة بالرموز التي تملأ الفؤاد توحيدا؟ أليس الطواف رمزا ومثله السعي والإحرام والرمي وأكثر أعمال الحج؟ لا بدّ من جرعات الرموز ـ كحال التيمم ـ لملء القلب بالإيمان نظرا وعملا معا
ثانيا : إذا كان المسلم مسؤولا عن ماله من بعد إنفاقه في الخير بطوية خيّرة فهل كان يجهل عليه الصلاة والسلام أن الهدي الذي ساقه في عمرة الحديبية التي أحصر فيها سيكون طعما للمشركين ولم يكن في تلك الأيام من المسلمين أحد هناك تقريبا؟ ساق هديا كثيرا وقلّده وأشعره وهو يعلم أن ما ينال منه صحابته عدا شيئا قليلا وأن أكثره سيكون طعاما لغيرهم من أهل مكة ومن غيرهم ممن يأتون البيت معظمين من القبائل المشركة إذ لم تفتح مكة يومها بعد. كان سيكون ذلك لولا الإحصار ومن المغالطة القول أن ذلك لم يكن لتلافي طعم المشركين من هدي المسلمين. كيف وهم مأمورون بإستئلاف قلوب غير المسلمين بالمال؟ وفي أول حجة إسلامية إذ قادها الصديق أميرا وعليّ مبلغا المشركين أجلهم ألم يطعم الهدي غير المسلمين؟ يكون ذلك بالضرورة فهم هناك وطعام المسلمين لهم حلّ بمثل ما كان طعام أولئك لنا حلاّ. المسلم إذن ليس مسؤولا لا عن أصل ماله الأوّل ولا عن مساقه المنتهي كلّما طلبه حلالا زلالا من آخر موضع له وبحسب عمله هو وليس حتى بحسب كسب صاحبه ( المؤجر أو طرف العقد بالتعبير المعاصر ) وكلّما كانت النية طيبة كذلك. إذ لو كلّفنا بالحرص على طهر المصدرية الأولى للمال لمات الناس جوعا وبمثل ذلك لو كلّفنا بالحرص على مساق المال الذي ننفقه. أين تذهب أموال الآداءات إذن؟
ثالثا : ألم يقترح على الصحابة ( الأنصار خاصة ) عليه الصلاة والسلام في حصار الخندق أن يشتري طرفا مهمّا في ذلك التكتل العسكري العربي الأوسع ( غطفان) بثلث ميزانية الدولة التي هو رئيسها؟ أليس التمر هو المصدر الأكبر ـ بل الأوحد تقريبا ـ لتلك الميزانية ولقوت الناس؟ أليس ذلك إعطاء لمال المسلمين لا لمشركين فحسب بل لمشركين محاربين في حالة حصار آثم وفي تحالف مع أعدى الأعداء يومها أي قريش؟ إشترى حرية الناس بالمال لأن الحرية أغلى من المال ولا عليه بعد ذلك أن يأكل الطعام مشركون أو أهل كتاب أو حتى محاربون أصلا. هو في حالة ضرورة يومها؟ صحيح قطعا. ولكن الذي يحجّ لأوّل مرة اليوم في حياته ـ ولنهب أنه جاوز الستين أو فوقها ولن تتاح له فرصة أخرى بحسب المنظور وليس تقحما للغيب ـ أليس مطلوبا منه أن يحرر نفسه من هذا الدين ( بسكون الياء ) الذي قال الله في فاصلته تعقيبا ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). الفاصلة فاصلة في تعليمها أن من توفرت له أسباب الحج من مال وأمن وغير ذلك فضنّ بذلك عن نفسه فهو كافر. لنقل : كفر نعمة تحوّطا. وإلاّ فما شأن الفاصلات في آخر الأيات؟ ذاك لا مخرج له في رأيه لولا أن الأنصار رفضوا عدا تضحية بالمال لمشركين محاربين وهذا لا مخرج له عدا تحرير نفسه من النار أداء لهذه الفريضة المحكمة شأنها إذا نزل محلها بصاحبها شأن الصلاة والصيام والزكاة لا فرق أبدا البتة
رابعا : لا خلاف في سفاهة الدولة السعودية ومنذ إرتباطها الأوّل بالوهابية تحالفا بين تدين رعوي بدوي تدثر بإسم محاربة البدع الشركية في تقديس الأضرحة وذاك حسبه من الإيمان وبين وجاهة القبيلة السعودية الأولى عدا أن المسلمين لفرط جهلهم لم ينتهبوا إلى تلك السفاهة عدا اليوم عندما إنقلب هذا الغلام السفيه ( إبن سلمان ) بإغراء أمريكي وغربي على ذلك العهد الأوّل أي الوهابية التي أثمرت سلفية في أكثرها ـ وليس كلها ـ حانفة عن الصراط المستقيم إما إلى جهادية فوضوية مستكبرة هي على كل حال بنت من بنات تلك العباءة الخبيثة أو إلى (جامية ومدخلية ) تسبغ المشروعية الدينية على الحكم الفاسد. كان يمكن للمسلمين أن ينتهبوا منذ البداية أو بعد البداية بقليل إلى أن تلك العائلة إنما تدثرت بالوهابية لحماية نفسها دينيا ولكن طغت تضاريس الأرض لتعمّي عنهم ذلك الفساد إذ ضمّت تلك العائلة إليها الحرمين الشريفين مستقوية بالبترو دولار وليظل المسلمون كلهم في مواسم الحج والعمرة ضيوفا لا أهل بيت وصمت العلماء عن ذلك ومضت فينا سنة الغفلة. ألآن وقد إنقلب هذا الغلام بإغواء أمريكي وغربي على الحرمات والله وحده يعلم ما يقضي فيهن؟ ألم تكن تلك العائلة هي المصدر الأوحد لداء السلفية التي لم تعد تعني عدا العنف والإكراه والإرهاب حتى لو كان أعلام سلفيون كثر يعارضون كل ذلك ولكن سيقوا إما إلى السجن أو إلى المنفى؟ أليسوا هم الذين حرفوا الدين في قضايا كثيرة منها رؤية الهلال وحقوق المرأة وشناعات إستشرى فسادها في الأمة شرقا وغربا مما عوّق الأداء الوسطي وفرض حالة شلل فكري ومعرفي في الأمة؟ أليسوا هم الذين ينتصرون سياسيا وماليا للصهيونية على حساب المقاومة الفلسطينية؟ لا ألوم زمرة الفساد أولئك أبدا. إنهم يقومون بدورهم المطلوب في الفساد والإفساد. إنما ألوم نفسي وأبناء جلدتي إذ خضعنا الرقاب ولوينا الأفئدة ننظر إلى سفهاء الدين في السعودية نظرة المريد في حضرة شيخه وطال بنا الأمد حتى بلغت النكبة بنا زبى الزبى
خامسا : مثل هذه الدعوات الضالة المضلة أليس لها أن ترعى الواقع الإسلامي اليوم قبل الحديث في قضايا عظمى لا يتحدث فيها فردا دون إجماع عدا الرويبضة؟ تعطيل الحج لعام واحد فحسب ـ وإن كنت ضد هذا مطلقا إلا إحصارا ـ هو من مشمولات ولي الأمر الأعظم ( الخليفة أو الرئيس أو الملك ولا تعنيني الأسماء ) أي الدولة الإسلامية ذات الرأس الواحد وأمره كالجهاد في الفقه لمن يدرس ذلك. لم؟ لأن الأمر يتعلق بفريضة إسلامية محكمة لا جدال فيها أوّلا. ولأن الناس لا يتسنى لهم بسبب الكثرة أداء ذلك إلا بعد سنوات طويلات تصل حد السبع والعشر وأكثر وأقل من ذلك ( نظام القرعة ) ثانيا. ولأن العائلة الفاسدة في المملكة ليست فقيرة إلى حدّ أنها لولا موسم الحج سقطت أو أعدمت ولا خلاف في أن أموال الحج ( دعوة إبراهيم عليه السلام ) تشكل مصدرا مهما من مصادر الميزانية في تلك العائلة. والأهمّ من ذلك أن تلك العائلة الفاسدة لا تهتم كثيرا لمثل هذه المقاطعات بل إن هذه المقاطعات بسبب إنعدام الرأس الواحد الذي يملي قراره بعد مشاورة وإجتهاد لا أثر لها إذ أن هؤلاء يقاطعون وغيرهم لا يفعلون بما يزيد من فرقة هذه الأمة. وأي رسالة يهمّنا أن نرصع بها النبأ في الناس بل في ناشئتنا أصلا؟ الحج شيء هيّن يمكن إخضاعه لإجتهادات عالم أو فقيه أو حاكم أو غير ذلك. لو كان الأمر متعلقا بمرض عضال معد لكان هناك حديث آخر ولو كان الأمر متعلقا بأمن وسلام لكان كذلك حديث آخر. ولكن الأمر متعلق بمآل أموال الحجاج إلى من لا يستحقونها. ألم يتعبدنا الله سبحانه بالقدرة والإستطاعة فحسب وليس بالتحقق من الأشياء عدا في الإعتقاد؟ لسنا مسؤولين عمّا يتجاوز طاقاتنا ولا أظن أن موازنة علمية إستصلاحية بين مفسدة أيلولة الأموال إلى من لا يستحقونها وبين مصلحة مسلم لم يقدر عدا هذا العام على أداء منسكه وقد بلغ من العمر عتيّا وهو ينتظر ذلك منذ سنوات .. لا أظن الموازنة إلا راجحة لصالح الصمت عن إثارة مثل هذه الجهالات. بل إن مصلحة الأمة نفسها في إعلان شعائرها ـ والحج أعظم شعيرة عالمية أذن في إشهارها وإعلانها وإبرازها تلبية وتجمعا ـ هي مصلحة مقصودة من الشرع الحكيم. لا يتخلف الحج ـ وخاصة لمن لم يؤد الفريضة بعد ـ إلا إحصارا لمرض أو أمن. أولى بنا إن كنا حزبا واحدا كما أمرنا أن نقاطع البضاعة الصهيونية. هل نجحت مقاطعاتنا؟ أبدا ما نجحت. يمكن أن نختلف في الإفتاء لزيارة المسجد الأقصى لأن شأنه ليس متعلقا بفريضة دينية ولكن ما ينبغي أن نختلف حول الحج تعويقا له موسما واحدا. صحيح أن الحج تعطل في السنوات الأولى من بعد الخلافة الراشدة إذ ضربت الكعبة بالمنجنيق ودار الخلاف السياسي المدمر بين عبد الله إبن الزبير إبن العوام والسفاح الحجاج إبن يوسف الثقفي وأن الحجر الأسود نفسه إستحوذ عليه القرامطة وغيبوه لسنوات طويلات وكل ذلك في سنوات كالحات حالكات تحكي الفتنة التي ظل يحذر منها عليه الصلاة والسلام فهل نرتد إلى الفتنة مرة أخرى؟
فريضة الزكاة اليوم معطلة فهل ننكب حالنا بتعطيل الحج؟
فريضة الزكاة معطلة في الأمة منذ عقود بل منذ قرون إذ أن الزكاة ـ وهي المبنى الثاني من مباني الدين ـ حقها مؤسسة حكومية تجمعها ( مؤسسة العاملين عليها) وهي التي تسأل عن جمعها وهي التي تسأل عن صرفها وفق مصارف محددة. ليست الزكاة متروكة أو مفوت فيها لكل مسلم لأنها حق الأمة وحق الأمة في الفقه يعبر عنه بحق الله وليست هي حق الفرد. آية تدويلها ( أي جعلها من إختصاص الدولة ) صريحة ( خذ من أموالهم صدقة ) وهو مأمور بمقام الولاية السياسية والإمارة الإدارية وليس بمقام النبوة وإلا لما أجمع الصحابة من بعده مباشرة في أول دولة على قتال مرتدي اليمامة الذين لم ينكروا أصل الفرضية بل منعوها الدولة. إيكالها إلى تلك المؤسسة الحكومية أضمن لحق الفقراء والمحتاجين ولذلك ليست هي فريضة فردية كالصلاة والصيام بل هي فريضة حكومية وهي اليوم بذلك المعنى معطلة معوقة ونحن غافلون ومما شجع على ذلك فساد الأنظمة التي لا تستحق الزكاة لأنها ستذهب إلى بطونها وليس إلى أهلها ولكن الوعي منا بأنها فريضة معطلة ما يجب أن يختفي. وعلى كل حال يحاسب يوم القيامة عليها كل صاحب مال بشكل فردي إذ عزّ الإجتماع عليها ولكن ماذا نقول في فريضة الحج؟ أي رسالة للناس؟ هل يرضينا أن يقفر البيت الحرام ومزدلفة وسائر المشاعر المعظمة عاما واحدا من أهلها؟ أي منظر كفيل بتهويننا أكثر مما نحن فيه من هوان؟. ولا علاقة لهذا سواء في هذا الإتجاه أو في الإتجاه المعاكس بما يثرثر به الجهلى بلا وعي ولا علم أي تسييس الحج أو عدم تسييس الحج. هذه نكبة أخرى قذفت بها العلمانية التي سترقص طبعا بدعوة تعويق الحج عاما واحدا
وجهالات أخرى تنتشر بين الناس
من مثل أن الفقراء أولى بمال الحج ويوردون قصصا سوء إستشهاد كما يفعل المتعجلون دوما. صاحب الشريعة الذي فرض الحج هو نفسه الذي فرض كفالة المحتاجين ولا مجال لوضع الفريضتين في محل التعارض. أجل. يمكن أن يكون ذلك لمن أدى الفريضة ولكن لمن لم يؤد الفريضة وهو في سعة فلا عذر له وهي على كل حال مرة واحدة في حياته وله أن يخصص من بعد ذلك وقبله ماله كله ـ إن شاء قهرا لهواه ـ لهؤلاء المحتاجين. إنما هي شغبات الشيطان ـ شيطان الإنس أقصد ـ
الهادي بريك ـ ألمانيا
brikhedi@yahoo.de