الإرهاب من صنّاعه وضحاياه إلى المستثمرين فيه

شكّل الإرهاب اليوم مشهدا دوليا قائما. هو مشهد مركّب وسليل إستحقاقات دولية وتاريخية معلومة. وهو مشهد ثلاثي الأبعاد : صنّاعه المباشرون. وضحاياه. والمستفيدون منه عسكريا وأمنيا وسياسيا وماليا. تحوّل المستفيدون اليوم إلى أرباب إمبراطوريات كبرى تستثمر في الإرهاب وتستخدمه فاعلا  في تغيير موازين القوى لصالحها. ضحايا الإرهاب فرض عليهم الإنصات إلى الإعلام السياسي فحسب حتى غدا المشهد الإرهابي في ظاهره مجرد جماعة إرهابية وضحية تنزف دما لننتقل إلى المنظر الثاني من المشهد أي إعلان التضامن والإدانة والإنخراط في الحرب ضد الإرهاب. ثم حصول الطرف المستثمر على تأشيرة عبور إلى القصف الجوي والإحتلال والتلويح بالحسم الأرضي للمعركة. ويتحول المشهد الإرهابي الأصلي إعلاميا ودوليا ـ وفي ذهن الضحية أيضا ـ إلى معركة عسكرية بين طرفين أو أكثر. يخلد الناس إلى الهدوء وفي الأثناء تشتغل المطابخ وفجأة يبث الأثير على الأرض كلها أنباء ملحمة إرهابية جديدة وضحايا جدد وربما فاعلون جدد كذلك. أليست تلك هي الوتيرة الغالبة منذ عقود؟
يحاول هذا المقال بسط الأسئلة الأخرى : إذا عرفنا الإرهابي وعرفنا الضحية فمن هو المستثمر؟ وإذا فرض علينا الإنصات من النافذة السياسية فحسب فأين المفكر الباحث الناقد الذي يجمع أطراف المشهد فيحلله مستنبطا الأسباب الباعثة والسنن الحاضنة؟ وإذا غلب على الإرهابي لونه الإسلامي وغلب على الضحية لونها الغربي فكيف نفهم ذلك؟
القوى الدولية المتنفذة تستفيد من الإرهاب وتستثمر فيه.
كارثة سبتمبر2001 نسجت خيوطها بين تنظيم القاعدة والمخابرات الأمريكية إستدراجا ودعما (لوجستيا) للحصول على تأشيرة عبور إلى أفغانستان والعراق إذ إلتقت مصلحة الخصمين وكثيرا ما تلتقي مصالح الخصوم في السياسة. ذاك مؤكد لدى المتابعين المهتمين. هو منعرج شبه جديد من لدن القوى المتنفذة دوليا في زمن تعالت فيه الأصوات الحقوقية وإدانة التدخل العسكري فكان لا بد لتلك القوى من تنظيم مسرحيات إرهابية تتقمص فيها دور الضحية وتستصدر بها تأشيرات صالحة لنهب الثروات النفطية وأغراض أخرى لا شأن لنا بها الآن. في الحالة الفرنسية ـ الأسبوع الدامي المنصرم ـ لن يستسلم المرء بسهولة من بعد الجرعة التطعيمية لكارثة سبتمبر إلى الرواية الرسمية. في قلب باريس ست مجموعات إرهابية إنتحارية مفخخة بالأحزمة الناسفة ورئيس الدولة خارج مكتبه بل في ساحة عامة يتابع مباراة رياضية ولم تمض على ضربة (شارل هبدو) سوى بضعة أشهر. لعقلي مطلق الحق مراكمة لكارثة سبتمبر في الفحص والتريث دون إستبعاد المسرحية القديمة بخيوط فرنسية سيما أن الخطاب الفرنسي الرسمي كان معدّلا قولا وعملا على تصعيد الهجوم العسكري في سوريا. تماما كما تضبط آلة لإيقاظك. الخطاب الفرنسي والإجراءات العالية جدا والسريعة جدا من مثل إغلاق الحدود وتمديد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر وإجتماع مجلس الأمن وتدويل القضية أروبيا .. كل ذلك لا يمكن هضمه بسرعة لعدم تكافؤ ” العملية الإرهابية ” مع الثقل الفرنسي المعهود. وعندما يشفع ذلك بتصعيد الهجوم العسكري على سوريا ثم بالتلويح بالخيار العسكري الأرضي .. كل ذلك ينسف المصداقية الرسمية حتى لو لم يكن لديك إثبات مضاد. حتى بلجيكا التي لم يحدث فيها شيء صعدت وتيرة الطوارئ إلى حدود تجعلك فعلا تتوقف. أي ثقل لبلجيكا التي هي أروبية بالتراب فحسب ولو كانت بلجيكا على أرض إفريقية لكانت بلادا إفريقية.
إستثمار الإرهاب من القوى المتنفذة دوليا لمواجهة مشاكل داخلية أو لإقتطاع الكعكة المناسبة من الحرب الدائرة في سوريا سيما أنها تتماثل لحل سياسي.. لم يعد محل ريب.
إستئثار السياسي بالساحة وإستبعاد المفكر : تسطيح للعقل.
الإعلام الفضائي والإلكتروني اليوم يسوق الناس سوقا عجيبا إلا قليلا. تلك قناعتي أرددها بحسرة وألم. إختبأ المفكر أو إستبعد وغيّب. ربما حتى لو أصدر تحليله أو كتابه فلن يجد له سوقا نافقة. إنفرد السياسي بالساحة فالإعلام يطارده والناس يترقبون تعليقه وهل يسع السياسي اليوم أكثر من إدانة الإرهاب وبقية الأغنية المحفوظة ( الإرهاب لا دين له وهو قضية دولية ونحن منخرطون في إعلان الحرب ضدها إلخ ..). لا لوم على السياسي هنا لأن (الكاميرا) التي تسأله تدغدغه لعله يتورط فيكون لها سبق. ولكن اللوم على الإعلامي الذي يساهم في تسطيح التفكير بتغييب المفكر. الإعلام شريك في المسرحية إلا قليلا. شريك بالإثارة السخيفة على الأقل. ويظل المفكر مسؤولا مهما قيّدت حركته أو أغمد قلمه. دعني أبحر قليلا بما يتسع له هذا المقال. للمشهد الإرهابي أسبابه الباعثة وسننه الحاضنة. وكذا أطرافه المستثمرة. تلك عناوين ثلاثة لا ريب فيها. الأسباب الباعثة هي بدورها مركّبة لا أحادية. رأيي أن سببين كبيرين يستأثران بإنشاء الإرهاب ولا يعدمان الأسباب الأخرى. السببان الكبيران هما : الإنخرام الإجتماعي العام والحاد في موازين القوى بين الغرب والشرق. ذلك الإنخرام يولّد الشعور بالقهر ثم ينشئ الإنفجار. والعامل الديني نفسه إذ لا ريب في أن العالم يعيش حالة دينية جديدة تمثلت في صعود الإسلام بمختلف تعبيراته الصحيحة والخاطئة. رأيي أن سنّتين تحضنان الإرهاب : الإحتلال الصهيوني لفلسطين وحالة الإستبداد السياسي الخانقة في المنطقة العربية بما أدى إلى خنق الثورة نفسها. أما أطراف الإستثمار فقد كفتنيها الفقرة الأولى من هذا المقال.

غلبة اللون الإسلامي على الفاعل الإرهابي.
هنا يتردد السياسي بل يتلعثم. هنا نحتاج المفكر الحر الذي يتوخى الإستقراء والتحليل والإستنباط. تلك غلبة واضحة من تنظيم القاعدة إلى داعش وغيرهما. هنا مسافة تفكر لازمة للمساهمة في إعادة بناء العقل الإسلامي المعاصر. عندما يقفز السياسي على تلك المسافة التي تحرجه ينجو بحزبه من تهمة الإرهاب بل بدينه أيضا. ولكن : أخبرني لم يغلب اللون الإسلامي (اللون والمظهر والخطاب بغض النظر عن الصدقية) على المشهد الإرهابي؟ رأيي أن المسألة في عمقها تاريخية سياسية من جهة وفكرية من جهة أخرى وعندما يتأثث المشهد الإرهابي بمثل ذلك وبأسباب باعثة معاصرة وبسنن حاضنة معاصرة.. فإن المشهد يعالج بأمور منها : إخراج الخطاب الوسطي من مخابئه الدافئة ولتكن له منابره ومحطاته ومساهماته ولا يعذر بدعاوى التضييق وهي صحيحة. عندما كان هناك رمز واحد من رموز ذلك الخطاب يحضر المنابر لمسنا ضربا من التوازن بين الصوت الإرهابي والصوت الحضاري. تأهيل الخطاب الوسطي نفسه برجال ومؤسسات وأدوات لخوض المعركة التي لن تحسم في غضون سنوات. هناك اليوم ضحالة بئيسة في خطاب الأئمة ورجال الخطاب الوسطي في العموم في أكثر مناطق التعبير والظهور. الأغنية ذاتها يفجع بها الأئمة الناس مع ظهر كل جمعة. أغنية من أغاني حزب التحرير سابقا أي كلمات مرصوصة تشكل محفوظات منشودة تلقى فلا تؤصل شرعا ولا واقعا ولا هي قابلة للتفصيل أصلا. عندما يحشر الناس كلهم شيبهم وشبابهم في الملعب السياسي ليرى كل واحد منهم نفسه أنه الزعيم القادم والنجم اللامع.. عندها تفعل السنن فعلها ليعلو الخطاب المتشدد قولا وفعلا ثم تهتز الأرض بدمدمة التكفير والتفجير.
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *