إنا لله وإنا إليه راجعون.
إختار سبحانه في هذه الأيام المباركات الطيبات الأولى من شهر رمضان المعظم 1432 عبده الزكي الطاهر : لزهر مقداد .. إختاره إلى جواره بعد معركة دامية شديدة مع داء السرطان لزهاء ثلاث سنوات أو ربما أزيد بقليل.
أنعم الله عليه بحسن الختام.
1 ـ رحل الصديق العزيز والرفيق الوفي لزهر مقداد بعد إبتلاء عسير بالمرض الذي هد جسمه وهي علامة من علامات حسن الختام لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورد البخاري عن أبي هريرة : „ من يرد الله به خيرا يصب منه “. أي من علامات حبه لعبده أن يبتليه سيما بالمرض في ختام رحلة الحياة ليطهره تطهيرا.وكان يمكن لتلك الرحلة أن تمضي في عافية مرسلة لا ينغصها شغب ولا يكدرها نصب بمثل ما يمد لمن لا يحب سبحانه إستدراجا.
2 ـ رحل الخل الصدوق لزهر مقداد بعد ملحمة طويلة من مقاومة الباطل إذ أن الراحل الكبير من مؤسسي حركة النهضة الإسلامية التونسية في منتصف سبعينيات القرن المنصرم. تحمل الراحل الكبير مسؤوليات قيادية كثيرة على إمتداد العقود الأربعة المنصرمة وكان مثالا للصبر والمصابرة والمجاهدة والإخلاص والعطاء وغرس قيم التآخي والتحابب. ما زادته المحن إلا رسوخا في اليقين والمقاومة. عرفته السجون ـ سيما المحاكمة الشهيرة أمام محكمة أمن الدولة عام 1987 ـ بمثل ما عرفته المنافي والمهاجر بدء من محنة التهجير الكبرى في تاريخ البلاد والحركة معا أي من عام 1990 حتى فرار الذيل المخلوع يوم 14 جانفي يناير 2011.
ذلك رصيد من الجهاد والمقاومة لن يذهب سدى ولا هدرا في ميزان الله تعالى يوم توزن الأعمال بالمعايير الصحيحة ثم ينادي المنادي بالحق مجلجلا : „ فريق في الجنة وفريق في السعير”. ومن ختم له سبحانه بمقاومة الجور والقهر صابرا محتسبا مؤمنا فقد أحسن له سبحانه الختام وزاده.
3 ـ رحل الرجل الكبير والمجاهد الصابر لزهر مقداد ولم ينعم بشيء من الثورة التونسية التي ننعم بها نحن اليوم من بعده أو نأمل أن ننعم بطيبات منها مغدقة مترعة. هو وحده سبحانه يصطفى عباده إليه ويجتبي ليبتلي هذا بالعسر فإن حصد أجرا كافيا أو يبتليه باليسر لعله يتدارك ما فاته من عسره. مما يتراءى لي إستئناسا وتفاؤلا وأملا أن الرجال الذين قبضهم إليه سبحانه وهم صامدون ثابتون راسخون عاضون على الجمر قبل أن تنقشع سحب الظلم .. أولئك أذخر أجرا عنده منا جميعا. أولئك إما أنهم قد نجحوا في إمتحان العسر نجاحا يؤهلهم لمنادمة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام في فراديس الجنان هناك حيث يستمتعون بالقرب من حياة الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود إستمتاع مصطاف على شاطئ وديع جميل بارد في يوم إزمهر قيظه.أولئك لم يعودوا بحاجة إلى إمتحان باليسر لإستكمال العدد المطلوب للفوز بالقرب من المقام المحمود. أولئك لم يعودوا بحاجة إلى شوط ثان. وإما أنه إصطفاهم إليه سبحانه وإجتباهم ليزيدهم من فضله وأي فضل أزيد من الزيادة التي أخبرنا عنها في كتابه العزيز : „ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة”. وهي زيادة النظر إلى وجه الكريم. زيادة يحبى بها أولئك عن الناظرين الآخرين من أهل الجنة بمثل ما ورد في قوله الآخر سبحانه : „ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة”. إجتباهم إليه سبحانه وإصطفاهم للزيادة جزاء على ما حرموا من الإستمتاع بطيبات زرعهم وثمرات حرثهم. ذلك هو منطق الجزاء عنده سبحانه في كتاب ما فرط فيه من شيء. لا يستوي عنده من جاهد ثم نصر وإستمتع بمن جاهد ثم قبض إليه صابرا محتسبا. لا يستوي المجاهدان فإن أصاب هذا منزلة “ ومن دونهما جنتان “ فقد أصاب الآخر منزلة أعلى : „ ولمن خاف مقام ربه جنتان “..
بل لعله إصطفاهم إليه سبحانه وإجتباهم لتخلص مجاهداتهم وتصفى مقاوماتهم أن تشغب عليها خلافات النصر المعهودة بين الإخوة الذين تجمعهم ساعات العسر بيسر وباليسر ذاته تفرق بعضهم عن بعض ساعات اليسر.
تلك هي حكمة أخرى لا تخطئها عين ناظر حصيف في مداولات الأيام الحبلى.
تلك 3 مظاهر لحسن الختام أنعم بها سبحانه على عبده الوفي لزهر مقداد.
إرحل قرير العين فقد إستوى شطأ زرعك على سوقه.
لا تثريب عليك أن ترحل عنا..
لا تثريب عليك أن ترحل عنا بعد أن أغاثت السماء أرضا كانت بالأمس جدباء..
لا تثريب عليك أن ترحل عنا بعد أن رويت بلسانك وعملك وقلمك وهاد تونس ونهادها طيبا..
لا تثريب عليك أن ترحل عنا بعد أن ظللت أربعة عقود تبشر بالنصر صدورا أقحطها اليأس..
لا تثريب عليك أن ترحل عنا بعد أن ربيتنا وأجيالا من قبلنا ومن بعدنا على حب الخير..
لا تثريب عليك أن ترحل عنا بعد أن أخرج رزعك شطأه صحوة إسلامية تونسية لو دعيت إلى خوض غمار المتوسط لخاضته..
لك أن ترحل اليوم عنا..
لك أن ترحل اليوم عنا بعد أن أرضعتنا فقه الثبات في يوم بلغت فيه القلوب الحناجر..
لك أن ترحل اليوم عنا بعد أن إستوى زرعك الذي حرثت على سوقه أملا في ثورة لن تخيب..
كذلك تعرفت إلى الراحل الكبير.
هو يوم لن أزال أذكره.
هو يوم لن يزال محفورا في سويداء الوعي.
كان ذلك في ذات يوم من أيام عام 1982. كنت أنتظر يومها في مقر عملي بالتفقدية الجهوية للشغل بمدنين مبعوثا للقيادة المركزية للحركة في أول إتصال مباشر بصف الحركة في موضوع مشروع الأولويات الشهير المعروف في تاريخ الحركة ـ يوم كانت الثقافة تؤسس للسياسة ويوم كان الفكر زينة المجالس ـ.
كان ذلك أول لقاء لي بالراحل الكبير لزهر مقداد. عليه رحمة الله سبحانه. ثم توطدت العلاقة من بعد ذلك حيثما جمعتنا سنون المقاومة ضد الإستلاب البورقيبي ثم ضد السلخ المادي والفكري في عهد الذيل المخلوع حتى آوتنا المنافي في أروبا.
هذه صورة الراحل الكبير في ذاكرتي.
1 ـ يتميز الراحل عليه رحمة الله سبحانه بأمر عزيز وجوده فيما عرفت من الإخوة والأخوات وهو أنه كان يجمع بين حركية كبيرة وعجيبة تصل الليل بالنهار حتى عد بحق رجل المؤسسة وأجدني مضطرا مرة أخرى ـ ويا للأسف الشديد ـ لأذرف دمعة حرى على قيمة المؤسسة رمز الشورى و معلم العمل الجماعي .. كان الراحل عليه رحمة الله سبحانه يجمع بين تلك الجندية التي لا تعرف مللا ولا كللا وبين ذكاء فكري وقاد وإطلاع ثقافي واسع. عرفت الحركة رجالا كثرا في مختلف المستويات القيادية من جنود المؤسسة الذين ضحوا بكل غال ونفيس ذبا عن الإسلام وعن الحرية والكرامة ولكن أفقهم الفكري ظل ضيقا حرجا لا يكاد يتسع بما فيه الكفاية لثقافة التعدد والتنوع والإختلاف. ذلك هو أول ما شدني في شخصية الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه. شدني ذلك إليه لأول وهلة وهو يقدم لنا مشروع الأولويات بمدنين عام 1982. شدني ذلك إليه فاحببته وظللت أقدره وأتعلم منه إيمانا بأن مركب القيادة في الإنسان والجماعة لا يكون بغير قلب رحيم وعقل حصيف أما الرحمة منزوعة الحصافة مثلها مثل الحصافة منزوعة الرحمة لا تثمر هذه إلا كما تثمر تلك عرجا لا يأمن صاحبه السقوط.
2 ـ كما يتميز الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه بالشجاعة الأدبية التي تؤهله لأن يكون فاعلا إيجابيا وناقدا بصيرا لا يتوانى عن الإصداع بكلمة الحق في ثوب قشيب من الأدب والحياء. كان ذلك شأنه دوما والحقيقة أن ذلك لم يجلب له بين إخوانه سوى مزيدا من المحبة والتقدير سيما أن الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه قائدا ميدانيا في ثوب جندي عادي مخلص. كان ذلك لا يجلب غير ذلك يوم كنا ويوم كانت. فلما أبى الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه إلا السير على هدى دربه الإيجابي الفاعل النصوح.. لما أبى غير ذلك إصطفاه إليه سبحانه وإجتباه ليخلص كسبه إليه وحده لا تعكره هرجات المنتصرين ولا تكدره طيشات المقاومين الجدد الذين بزغ بهم فجر الثورة ليكون بعضهم فجرا كاذبا مدلسا.
ومعلوم لدى من يعرف الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه أنه كان شاعرا يقرظ أجمل قطوف الأدب العربي من معينه الصافي لا يحتاج فيه ـ لفرط فقر مدقع وفرط عجب مهلك ـ إلى إنتحال الشعر العمودي الذي سحر الناس فجعل من البكم متكلمين يملؤون المهرجانات غثاء تربد له وجوه العرب. الراحل الكبير عليه رحمة الله سبحانه شاعر مرهف الحس يقول فيعرب بما إختار من بحر مناسب لتفعيلة قريظه.
أذكرني عند ربك لعل قادمات اليسر تنسف خاليات العسر.
أذكرني عنده سبحانه لعل الداء الوبيل العضال الذي قيد حركتك في الأيام الأخيرة من رحلتك الكبيرة الطيبة المباركة يكون لك شفيعا بين يديه سبحانه فيكون الصراط لك طريقا معبدا ممهدا. أذكرني عند ربك لعلك تكون عنده ممن عجلت له منيته من بعد إستكمال الفوز في أشواط العسر المتلاحقة ليكون من المقربين. إذكرنا جميعا عند ربك لعل النفوس تشرئب منا إلى محاصد الغنم الهالك فتحبط أعمال وتنحط عن القرب من الوسيلة والفضيلة أخرى.
اللهم إغفر ذنبه وإستر عيبه وفرج كربه..
اللهم أغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس..
اللهم تقبله عندك قبولا حسنا وأبدله دارا خيرا من داره..
اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره.
اللهم إجعل قبره روضة من رياض الجنة..
اللهم شفع فيه كل شفيع مقرب منك وسيد الشفعاء محمد عليه الصلاة والسلام..
اللهم أجزه عنا بما علمنا خير الجزاء..
اللهم أسكب الصبر والسكينة والطمأنينة والرضى في صدر أهله وذريته وإخوانه..
وسبحان الحي الذي لا يموت..
سبحان من قضى أن كل من عليها فان ليبقى وجه ذي الجلال والإكرام..
سبحان من يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها..
آمين.
آمين.
آمين.
الهادي بريك ـ ألمانيا