أي أرض تقلك يا بن علي وأي سماء تظلك

أي أرض تقلك يا بن علي وأي سماء تظلك

حقارتي لمن يتكلف معارضة بن علي بعد أن أكرهه الشعب التونسي على الرحيل..

حقارتي لذلك الصنف من التفهاء لا تقل حقارة عن الراحل نفسه..

ألا ما أحقر الدنيا وحطامها عندما تركل المتهافتين عليها بملء قدميها.

من كان منا يظن قبل أيام قليلات بأن نهاية بن علي ستكون بمثل ما شهدنا جميعالا أحد يدعي ذلككان أكثرنا تفاؤلا يتعجل المحطة الإنتخابية القابلة لعام 2014 لعل الراحل يرتبك في لي الدستور مرة أخرى أو تحول دونه ودونه حكمنا حائلة المرض أو الموتكان الناس على ما يشبه الإجماع على أن أحدا من أقربائه أو أصهاره سيرثه لفرط ما إستحكمت فينا حلقات حقبة مضنية قاسية من تاريخ تونسحتى مع إنبلاج الإنتفاضة الراهنة قبل زهاء شهر كامل ما كان واحد منا يرفع سقف آفاق تلك الإنتفاضة ـ حتى في نفسه ـ إلى أبعد من إكراه الراحل على تنازلات إجتماعية أو إعلامية أو سياسية أو حقوقية.

لو سأل اليوم بن علي سائل كم لبثت على ظهر السلطة في تونس؟ وماذا تذكر من متعها؟ لو توجهت بالسؤال ذاته إلى زوجه وأصهاره.. لن يظفر السائل سوى بحسرات عميقة مثل حشرجات الموت أو سكرات الإحتضارينعقد اللسان عن الكلام ولكن لسان الحال يقول كأني لم أستمتع بما إستمتعت به مقدار فواق ناقة.

بعض الناس ممن يحفرون قبورا لخصومهم لا يريدون طرق الموضوع من هذا الجانبطرق الموضوع من هذا الجانب يكدر عليهم متعة الإيقاع بخصومهمسؤال يتحاشاه أولئك ترى ما الذي أوقع بن علي ـ ومعه أصهاره ـ في ورطة شنيعة مثل هذهورطة أكرهته على الرحيل من قصره المنيف ذليلا خاسئا مختفيا عن الأنظار وقد كان قبل قليل يرفل في الحريريأكل ما لذ وطاب ويشرب ما تشتهيه الأنفس والبلاد طوع بنانهألم يكن في غنى عما أوقع فيه نفسه وختم به حياته السياسية على الأقل.

بعض الناس يتحاشون طرق الموضوع من هذا الجانبلأنه جانب روحاني بتعبيرهمجانب ينادي القضية من مكان بعيدجانب لا صلة له بالسياسةأولئك الذين يتحاشون ذلك لا يستأمنون على دينار واحدلو تمكن أولئك مما تمكن منه بن علي وأصهاره لكان بن علي تلميذا أحمق بين أيديهم يأخذ عنهم فنون السلب والنهب والفساد.

ما يتحاشاه أولئك هو قولك أن الدنيا بحطامها الفاني وزخرفها البالي هي التي أوقعت بن علي وأصهاره في شراكها فظل حبيسا لغوايتها وسجينا لأغرائها بمثل ما تصطدم الذبابة بخيوط العنكبوت فلا تملك لنفسها منها فكاكا.

لم يكن بن علي صاحب مشروع ثقافي أو توجه فكري حتى يقال عنه ـ بمثل ما نقول اليوم عن بورقيبة مثلا ـ أنه كان جنديا وفيا لرسالته كما أنه لم يفشل في قيادة الدولة بالمعنى المعروف أي فشلا إداريا بسبب نقص في التجربة أو غير ذلك حتى يقال عنه أنه خاض تجربة تبين أنها أكبر منه فلم يحالفه فيها غير الفشل الذريع.

لم يكن بن علي من هؤلاء ولا من أولئكولكن الراحل كان يسوقه شرهه وطمعه إلى حتفه بما تورم حب الدنيا في قلبه حتى بلغ مرحلة سرطانية خطيرة جدا ومتقدمة جدا سماها الإسلام الطبع على القلب أو الختم على القلب ). ولم تكن العوامل الأخرى إلا رافدات لازمة لأعتى سرطان نفسي يفتك بالنفوس سرطان حب الدنيا حتى يكون العبد طوع بنانهارافدات كثيرات من مثل تأثير زوجه وعائلته وأصهاره أو إمتلاك ورقات إدانة خطيرة ضده كما يقولون بالتعبير السياسي أو من مثل حقارته بين أيدي القوى الخارجية عربيا وغربيا وغير ذلك من الرافدات الكثيرة.

ولكن الداء الوبيل الذي كان هو السبب الأول في الفتك بالراحل هو إنغماسه في لذائذ الدنيا وحطامها وما زينت له السلطة وما خدعته مظاهر القوة والصلف سيما بعدما تبين له أن العصا الغليظة كفيلة بتكميم الأفواه وإلجام الأقلام وإسالة عيون النفاق بلعابها الزعاف.

ألا ما أصغر الإنسان عندما يغفل عن مضاء إرادة الله سبحانه.

الذين يطمحون إلى بناء مشروع ثقافي سياسي إسلامي أصيل متوافق مع الفطرة والسنن والحداثة ـ أو الذين يطمحون إلى إستئناف ذلك المشروع ـ يحتاجون دوما إلى توطيد عرى الصلة بينهم وبين القيم الأخلاقية الروحية الكفيلة بإماطة أذى الغفلة عنهمالغفلة غفلتان غفلة نفسية شعورية عاطفية كفيلة بسوق صاحبها إلى تلطيخ كسبه بكل سيء خبيث حتى يرحل عن الدنيا أو عن موقع الفعل وميزانه منخرم إنخراما صارخا في إتجاه الهاوية السحيقةوغفلة فكرية عقلية تسوق صاحبها إلى تنكب المنهاج الأقوم والسبيل الأرشد للإصلاحالغفلتان متلازمتان حتما حتى لو بدا لك ردحا من الزمن أنهما منفصلتان.

من منا لم يقرأ تلك السنن في كتاب الله سبحانه مرات ومراتمن منا لم ينبهر لأساليب سوقها ضمن قصصها بما شيدته مبانيها وبلغته معانيها.من منا لم يذكر ذلك لنفسه في خلواته أو في مسامراته مع الناسغير أننا كثيرا ما نغفل عن ذلك غفلات كثيرات بل غفلات طاحنات كلما ظننا أن الأمر إستحكم لبن علي مثلا أو إستتب لعصابته التي إتخذت من كرائم أموال الناس مراتع خصبة.

نقرأ ذلك في القرآن الكريم مرات ومرات فإذا ذكرنا حال الراحلين من قبل بن علي إزددنا يقينا حتى إذا عافسنا الذي عافسنا أنسينا كل ذلك أو أجزاء كبيرة منه.

ثارت الجماهير غاضبة ..

تحرك الشارع مزمجرا..

ونظل نحشد من الأسباب الظاهرة ما نحشدنظل نمطط التحليلات ونزيغ بها يمينا وشمالانسترجع كل صغير وكبير جد قبل الإنتفاضة الراهنة لبناء هيكل من الحديث لا يملك القارئ حياله إلا تسليماثم ننفض وقد أثر بعضها في بعض أو تأثر بعضنا ببعض.

إلا شيئا واحدا لا يذكر.

من أخذ بن علي أخذ عزيز مقتدر؟

من أمهله على إمتداد ربع قرن كامل بالكاد وكان قديرا على أخذه منذ اليوم الأول؟

من نفث في روع هذا لينتفض و أجرى لذاك سببا ليعزره وبارك في جهد جندي مجهول؟

تلك أسئلة غير جديرة بالطرح إذ لا مكان لها.

تلك أسئلة روحانية ـ أو ربما قبورية ـ لا صلة لها بالتحاليل السياسية.

تلك أسئلة القرون الوسطى.

تلك أسئلة لم يعد يتسع لها الفضاء السياسي ولا الإعلامي.

تلك أسئلة لا يحسن سوى إستبعادها لفرط ما تبث من الإيحاءات الغريبة أو المشبوهة.

تلك أسئلة لم تتحصل بعد على تأشيرة تمكنها من إقتحام فضاءات عامة مشتركة.

تلك أسئلة أشبه شيء بالعورات التي يجب سترها.

تلك أسئلة تحيلنا إلى منزلة الإنسان ودوره.

تلك أسئلة تحيلنا إلى أسئلة وجودية عدمية عبثية.

تلك أسئلة تجعل السهام في نحورنا بما يتهمنا أصحابها بالتأويلات الغيبية.

لم عجل لبن علي أجله.

الحديث عن الأجل السياسي بما ظهر لنا منه أما الأجل الآخر فما زال غيبا محفوظاوهل عجل لبن علي أجله؟ ألم يمهل زهاء ربع قرن كامل؟ هو بالتعبير الإسلامي مد أو إستدراج وليس هو من قبيل الإبتلاء.

ـ لأنه ورط نفسه في أشد شيء يستمطر غضب الله سبحانهكل من يدرس الإسلام في نصوصه الأصلية من قرآن وسنة يعلم أن أكثر شيء يغضب الله سبحانه هو الولوغ في حرمات الناس من دماء وأعراض وأمواليستوي أن يكون الوالغ مؤمنا أو كافرا بمثل ما يستوي أن يكون المولوغ فيه دم كافر أو عرض يهودي إلا ظالما ينتصف منه بمثل عدوانه دون إسرافورط بن علي نفسه في دماء الناس من أول يوم أناخ فيه بكلكله على عرش السلطة في تونسورط نفسه في ذلك مرات ومرات ولم ينزجر بل ظل سادرا في طغيانه يزين له الشيطان ـ شيطان الإنس والجن سواء بسواء ـ أن الإسلاميين لا يساوون حطبا توقد به النارأمهله سبحانه عاما وعاما ثم عقدا وعقدا فما إرتدع ولا إرعوىضجت المنظمات من تعديه لحقوق الإنسان ـ حتى لو كان ذلك الإنسان ظالما ـ شرقا وغربا ولكنه أبى إلا أن يحفر قبره بصلفه.

ألم يعلمنا الإسلام أن قتل إنسان واحد ظلما أشد عنده سبحانه من هدم الكعبة المشرفة؟

ـ كان ذلك هو السبب الأول ـ فيما أرى والله أعلم ـ الذي عجل به الله سبحانه لبن علي أجلهأما السبب الثاني فهو عدوانه على الإسلام ذاته دينا محفوظاكان ذلك من خلال تبنيه لخطة تجفيف المنابع الشهيرةدعنا نضم أصواتنا إلى أولئك الذين ينفون وجود شيء في تونس بذلك الإسملا غضاضةألم تتواتر حوادث العدوان على الإسلام في تونس ـ من حيث أنه دين معلوم بالضرورة وليس من حيث أنه تاريخ أو حضارة أو ثقافة أو نظام ـ؟ الحديث هنا بعد رحيله لم يعد له أي معنىولكن حرب بن علي ضد الإسلام ذاته حرب لا ينكرها إلا سفيه لا يعتد برأيهلم يشفع لبن علي أنه لم يعرف عنه قبل توليه السلطة أنه يحمل فكرا معاديا للإسلام ولم يشفع له أنه إنما شن تلك الحرب ضد بعض رموز الإسلام المعلومة بالضرورة إقتضاء لما تفرضه الحرب ضد الإسلاميين بالضرورةلقد نبهه الناس في الإعلام مرات ومرات ـ وربما نبهه غيرنا في جلسات خاصة لا نعلمها ـ إلى أن الحرب ضد الحركة الإسلامية ما ينبغي لها أن تجره إلى التورط في النيل من الإسلام ذاته من حيث يدري أو من حيث لا يدري.الأمران مفصولان فصلا كبيراالحرب ضد الحركة الإسلامية يمكن أن تفهم أنها معركة سياسية وأقصى شيء فيها أن بن علي تجاوز حدوده فيها.أما عندما تكون الحرب ضد الإسلام ذاته فإن صاحب الإسلام نفسه هو من يتولى الدفاع عن دينه بمثل ما حمى بيته سالفا من جيش أبرهة.

ـ أما السبب الثالث ـ فيما أرى والله أعلم ـ فهو تمكينه لأصهاره والعصابة التي من حوله في مواضع النفوذ والغلبة والقهر حتى يستولوا على أموال الناس إستيلاء عصابات النهب والسلب وقطاع الطرق حقيقة لا مجاز فيها.

أنى له ألا يعجل له أجله وقد إنتهك أكبر المحرمات وتجاوز أكبر الحدود.

ـ حد دماء الناس من خلال قتل أبناء الحركة الإسلامية في سنوات الجمر الأولى ثم من خلال الإنتفاضات المتوالية من الرديف وبنقردان حتى سيدي بوزيد وما تلاها.

ـ حد أموال الناس من خلال التمكين لأصهاره ومن معهم من المستفيدين.

ـ حد النيل من الإسلام ذاتهأليس للإسلام رب يحميه عندما يبسط الذل رداءه على الناس؟

كلمات لا بد منها.

ـ لتكن لنا في رحيل بن علي عبرةهي عبرة قال فيها سبحانه : „ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وإزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس”إزينت الأرض لبن علي وأخذت زخرفها لأصهاره فأتاهم سبحانه من حيث لم يكن يحتسب هو ولا أصهاره ولا أي واحد منا.

ـ أجدد القيمة الأخلاقية التي بدأت بها حقارتي لمن يعمل أسياف لسانه أو قلمه اليوم في بن علي بعد رحيله لا تقل عن حقارتي لبن علي ذاته.لابل أشد لأن النفاق سم زعاف.

فأي أرض تقلك وأي سماء تظلك يا بن علي..

بالأمس كانت باريس تبسط لك السجاد الأحمر القاني والحرس على طرفيه يؤدون التحية وكأن على رؤوسهم الطير..

واليوم ـ بحسب ما علمنا من الأخبار والله أعلم ـ يضن عليك حاكمها بالدخول عليهم ولا يسمح لك حتى بالإستمتاع بما شيدت هناك من قصر أو قصور..

ألا ما أحقر الدنيا عندما تركل عبيدها بملء قدميها.

الهادي بريك ـ ألمانيا

شاهد أيضاً

قصة يونس عليه السلام

هو يونس إبن متى عليه السلام أحد الأنبياء المرسلين المذكورين في القرآن الكريم وحملت سورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *